وهم الإنسانية.. روسيا وإدمان إفريقيا على صَدَقاتها… بقلم د. محمد فرج الله

روسيا في إفريقيا: بين وعود الشراكة وحقيقة الاستغلال

كييف / أوكرانيا بالعربية / في السنوات الأخيرة، ومع تزايد عزلتها الدولية، توجهت روسيا أنظارها نحو الدول الإفريقية، متعهدة بالدعم والتعاون، في محاولة منها لتقديم نفسها كحليف موثوق للقارة السمراء. ومع ذلك، تخفي هذه الخطابات الجذابة عواقب وخيمة ومدمرة على هذه الدول، فالبطبع موسكو لا ولن تكشف عنها. ورغم تأكيد موسكو على رغبتها الصادقة في الشراكة، تؤدي أفعالها إلى زعزعة الاستقرار، وتأجيج أزمة الغذاء العالمي، وتعميق الاعتماد على الإمدادات الروسية.

كانت أفريقيا تُعتبر يومًا ما "سلة غذاء" العالم، لكن في ظل الأزمات الغذائية العالمية، أصبحت القارة بحاجة ماسة إلى إمدادات غذائية مستقرة، وخاصة الحبوب. ولدى العديد من الدول الإفريقية، التي يعتمد أمنها الغذائي على التجارة الدولية، أصبحت أفعال روسيا تحديًا كبيرًا. ففي عام 2022، استخدمت روسيا نفوذها لتعطيل عمل الموانئ الأوكرانية عبر القصف والحصار، مما أثر بشكل كبير على إمدادات الغذاء إلى أفريقيا وترك العديد من الدول تواجه شبح المجاعة. وقد أدى التصعيد الروسي إلى خلق ظروف اعتماد على روسيا، حيث تقدم موسكو "المساعدة" لإظهار الدعم بينما تواصل اللعب على أزمات القارة.

وعندما انسحبت روسيا من اتفاقية الحبوب في عام 2023، زادت الأزمة سوءًا، مما جعل الدول الإفريقية رهائن للعبة الجيوسياسية . بدلاً من توفير إمدادات مستقرة، تقدم روسيا شحنات محدودة من الحبوب والأسمدة، تبدو وكأنها إيماءات رمزية أكثر من كونها خطوات دعم حقيقية. ترسل موسكو كميات ضئيلة من الغذاء، مما يخلق وهمًا بالاهتمام باحتياجات أفريقيا، لكن هذه "المساعدة" ليست سوى حلول مؤقتة لا تعالج جذور أزمة الأمن الغذائي في القارة.

وفي الوقت نفسه، تعزز روسيا صورتها كـ"صديق" لأفريقيا ودول الجنوب العالمي من خلال تنظيم فعاليات مثل منتدى "روسيا – أفريقيا"، حيث تعد بالدعم والشراكة. عُقد أول منتدى من هذا النوع في سوتشي عام 2019، ثم تكرر في سانت بطرسبرغ عام 2023، والآن من المقرر أن يُعقد مؤتمر آخر في 9-10 نوفمبر 2024. في هذا المؤتمر، ستصدر موسكو وعودًا جديدة بالدعم والتعاون. ورغم هذه التعهدات، تكمن الحقيقة في أن أفعال روسيا تُضعف الأمن الغذائي للدول التي تدعي مساعدتها.

وفي الوقت الذي تتحدث فيه روسيا عن الصداقة، تواصل قصفها للموانئ الأوكرانية والسفن المحملة بالغذاء، مما يهدد بشكل خطير دول الجنوب العالمي. ففي سبتمبر 2024، على سبيل المثال، قصفت روسيا سفينة محملة بالقمح كانت في طريقها إلى مصر، مما حرم البلاد من مورد حيوي. وقد أدت هذه الهجمات، إلى جانب حصار الموانئ، إلى تفاقم أزمة الغذاء التي أثرت بشكل كبير على الدول الإفريقية والعربية التي تعتمد على واردات الحبوب.

تسببت الاضطرابات في إمدادات الحبوب الأوكرانية في ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية، مما أثر بشدة على دول مثل مصر، ليبيا، السودان، إثيوبيا، الصومال، نيجيريا وغيرها. وتعتمد نسبة كبيرة من سكان هذه الدول على الحبوب المستوردة، وكل تأخير في الإمدادات يشكل تهديدًا لرفاهية ملايين الأشخاص. يزداد التوتر الاجتماعي مع تزايد مخاطر عدم الاستقرار السياسي، حيث يخرج الناس الغاضبون إلى الشوارع. ويؤدي الاعتماد المتزايد على روسيا إلى وضع أفريقيا في موقف هش، مما يزيد من التفاوت ويقلل من فرص التنمية الاقتصادية والسياسية المستقلة، ويقيد تطلعات القارة نحو الاستقلال الحقيقي والازدهار.

لكن الغذاء والحبوب ليسا سوى قمة الجبل الجليدي في استراتيجية روسيا. لتعزيز نفوذها، تستخدم روسيا الدعاية بشكل مكثف، مقدمة نفسها كـ"صديق" لأفريقيا، يمكنه أن يحل محل الدول الغربية. تبث وسائل الإعلام الروسية مثل سبوتنيك وآر تي وجهة النظر الروسية باللغة الفرنسية والعربية والإنجليزية لجمهور الدول الإفريقية، مركزة على "الاستعمار الجديد" للغرب ومقدمة روسيا كـ"محرر". وتعزز هذه الرسائل الدعائية عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تستهدف الشباب، وكذلك من خلال برامج تعليمية ومنح دراسية وتبادلات ثقافية، مما يكوّن صورة إيجابية لروسيا بين الأفارقة.

تعمل روسيا مع وسائل الإعلام المحلية لنشر وجهات نظر مؤيدة لها، مما يعزز وجودها في المنطقة. ويُخفي هذا الدعم أهدافًا حقيقية تتمثل في خلق اعتماد سياسي واقتصادي، حيث تبقى أفريقيا تحت سيطرة موسكو بدلاً من أن تكون حرة من النفوذ الخارجي.

ويتجلى هذا الاعتماد أيضًا في الدعم العسكري الذي تقدمه روسيا من خلال شركات عسكرية خاصة مثل "فاغنر"، و"الفيلق الإفريقي"، وغيرها. وغالبًا ما يرتبط وجود المرتزقة الروس بالعنف وزعزعة الاستقرار. تدعم موسكو الأنظمة الاستبدادية، مما يعزز الحكومات الديكتاتورية التي تقمع تطلعات المواطنين الديمقراطية وحقوقهم. ويقوي التعاون مع روسيا هذه الأنظمة الاستبدادية، مما يحرم الدول الإفريقية من فرصة اختيار مسارها التنموي بحرية.

اذ تهدف الاستراتيجية الاقتصادية الروسية إلى السيطرة على الموارد الطبيعية لأفريقيا – واهمها الذهب و اليورانيوم. لا يؤدي هذا فقط إلى إخضاع القارة للمصالح الروسية، بل يقوّض اقتصاداتها المحلية، مما يزيد من اعتمادها. تزداد النزاعات الداخلية على الموارد، وتصبح الدول الإفريقية، التي تفتقر إلى النمو الاقتصادي المستقل، مجرد ملحقات روسية لتصدير المواد الخام.

كل هذه الخطوات لا تقود أفريقيا نحو التنمية، بل نحو الادمان على "صدقات" روسيا والتي تعرض شراكة مزيفة، مما يجعل القارة ضحية لطموحاتها الجيوسياسية. 

تقوّض سياسة موسكو الأمن الغذائي وآفاق التنمية المستدامة، وتحرم الملايين من الأمل في مستقبل مستقر.

وفي حين تواجه القارة أزمة متفاقمة، تواصل روسيا استغلال أفريقيا كساحة لطموحاتها. تحت ستار المساعدة والدعم، يزرع الكرملين الفوضى ويقوّض الثقة في المؤسسات الدولية، مما يخلق لنفسه أدوات تأثير جديدة. تصبح أفريقيا أداة في السياسة العالمية لروسيا، مما يهدد بعواقب طويلة الأمد للقارة بأكملها – من الأمن الغذائي إلى الاستقلال السياسي.

حيث تبني موسكو مستقبلًا مليئًا بالتهديدات والادمان الأفريقي على روسيا. فهذا التلاعب بالاحتياجات الغذائية، والمناورات بالإمدادات، واستغلال الثروات الطبيعية، لا يقدم لأفريقيا سوى شراكة وهمية تفتقر إلى الرعاية الحقيقية وآفاق التنمية طويلة الأمد.

المصدر: أوكرانيا بالعربية

مشاركة هذا المنشور:
أخبار مشابهة
سياسة
إعدامات أسرى الحرب: روسيا ترتكب جرائم حرب متعمدة في أوكرانيا
جرائم الكرملين: أسرى الحرب بين الإعدام والانتهاك
سياسة
شميهال: أوكرانيا تلقت 100 مليون دولار من كوريا الجنوبية
كوريا الجنوبية تدعم ميزانية أوكرانيا
سياسة
هيئة الأركان الأوكرانية: خسائر روسيا تتجاوز 736 ألف جندي
تقرير جديد: خسائر روسيا في الأفراد والمعدات بالأرقام
سياسة
يرماك يحدد شروط أوكرانيا لبدء محادثات السلام مع روسيا
مدير مكتب رئيس أوكرانيا: يجب ألا ندع روسيا تفوز
الأخبار الرئيسية
سياسة
أوكرانيا تفرض عقوبات تاريخية على أسطول النفط الروسي الظل وتكشف عن شبكة تحايل دولية
زيلينسكي يوقع على أكبر حزمة عقوبات تستهدف 656 سفينة.. ويكشف أنها كانت تبحر تحت أعلام 50 دولة لتهريب الطاقة وتمويل الحرب
سياسة
سيرسكي يعلن استعادة 16 كم² في بوكروفسك ويكشف عن تفاصيل خطيرة عن أداء الجبهة الأوكرانية
القائد العام للقوات المسلحة: القوات الروسية ثابتة عند 710 آلاف رغم التجنيد المكثف.. ووحداتنا تستنزف العدو بـ81 غارة عميقة
سياسة
زيلينسكي يلتقي قادة أوروبا في برلين الاثنين في قمة مصيرية لبحث مسار السلام الأوكراني
اجتماع ثلاثي يضم ميرز وماكرون وستارمر وستوب لبحث وقف إطلاق النار.. وممثل أمريكي قد يشارك إذا أحرزت المفاوضات تقدماً
أخبار أخرى في هذا الباب
آراء ومقالات
أوكرانيا عضوا بالاتحاد الأوروبي عام 2027
د. فرج الله: الاتحاد الأوروبي أصبح اليوم مهتما جدًا ومعنيًا جدًا بضم أوكرانيا لصفوفه أكثر من أي وقت مضى
آراء ومقالات
خبراء غربيون يحددون الشرط الوحيد لإنهاء الحرب في أوكرانيا
يقول هيربست إن التنازلات التي تقدمها الولايات المتحدة الأمريكية للكرملين من أجل تأمين اتفاق سلام لا تؤدي إلا إلى دفع بوتين إلى مزيد من الحرب
آراء ومقالات
خبير كندي: روسيا تختبر عمداً الخطوط الحمراء لحلف شمال الأطلسي
الخبير الكندي: موسكو تتحدى الحلف باختراق الأجواء البولندية لقياس رد فعله وتتحدى ضبط النفس لدى الحلف
اختيار القراء
سياسة
رئيسة وزراء أوكرانيا تناقش المسار الاقتصادي مع ممثلي ترامب
سفيريدينكو: الخطط الاقتصادية لديها كل فرصة للنجاح في التنفيذ إذا ما تم تطبيق ضمانات أمنية محكمة
سياسة
أوكرانيا تفرض عقوبات تاريخية على أسطول النفط الروسي الظل وتكشف عن شبكة تحايل دولية
زيلينسكي يوقع على أكبر حزمة عقوبات تستهدف 656 سفينة.. ويكشف أنها كانت تبحر تحت أعلام 50 دولة لتهريب الطاقة وتمويل الحرب
سياسة
زيلينسكي يلتقي قادة أوروبا في برلين الاثنين في قمة مصيرية لبحث مسار السلام الأوكراني
اجتماع ثلاثي يضم ميرز وماكرون وستارمر وستوب لبحث وقف إطلاق النار.. وممثل أمريكي قد يشارك إذا أحرزت المفاوضات تقدماً
سياسة
سيرسكي يعلن استعادة 16 كم² في بوكروفسك ويكشف عن تفاصيل خطيرة عن أداء الجبهة الأوكرانية
القائد العام للقوات المسلحة: القوات الروسية ثابتة عند 710 آلاف رغم التجنيد المكثف.. ووحداتنا تستنزف العدو بـ81 غارة عميقة
تابعونا عبر فيسبوك
تابعونا عبر تويتر
© Ukraine in Arabic, 2018. All Rights Reserved.