أوكرانيا بالعربية | في ذكرى غياب الدفئ... بقلم د. عاصف العطي

كما تبدأ الطفولة، يبدأ الوطن: كلاهما مقترن بديمومة الحياة، يخرجان للنور كما يشكلان الركنين الاسميين في المجتمع البشري قاطبة : الانسان أولهما...، وما يألفه حوله من رقعة جغرافية تشكل له حاضنا اجتماعيا يصوغ لغته، يطور عقله وثقافته، ويطفي عليه صبغته ودفئ شموسه ثانيهما. ثنائية توأمية متلاحمة توفر للانسانية، فيما توفره، مناخا متلائما لتواصل الاجواء الاجيال الوليدة مع ارث

كييف/أوكرانيا بالعربية/كما تبدأ الطفولة، يبدأ الوطن: كلاهما مقترن بديمومة الحياة، يخرجان للنور كما يشكلان الركنين الاسميين في المجتمع البشري قاطبة :

الانسان أولهما...، وما يألفه حوله من رقعة جغرافية تشكل له حاضنا اجتماعيا يصوغ لغته، يطور عقله وثقافته، ويطفي عليه صبغته ودفئ شموسه ثانيهما.

ثنائية توأمية متلاحمة توفر للانسانية، فيما توفره، مناخا متلائما لتواصل الاجواء الاجيال الوليدة مع ارث الماضي والانتقال به الى أفق المستقبل.

غير ان الكثيرين على وجه البسيطة قد عايشوا هذه الثنائية بشكلها المجزوء، والمشوه أحيانا، اذ أن لصوص الارض وغزاة الامم المستضعفة، عملوا على سلبهم الشق الثاني من المعادلة على الاقل.. الا وهما الوطن...

أعترف بأسى بأنني أحد هؤلاء اللذين تجرعوا مرارة هذه المرحلة الاليمة، بكل ما سرقته من اشراقات الطفولة، وحقها البريء بتوزيع صدى ضحكها على أسوار روضات الاطفال..، هنالك لم تكن طفولة، لا طفولة ولا وطن .. كان نصيبي منهما – كما هو نصيب الكثير من أطفال اللاجئين الفلسطينيين – هو المشهد المأساوي المبكي لطفولتي المغدورة المتجسدة بالوقوف المرهق والطويل في طابور التزاحم على شباك مبنى هيئة "الانورا" لاغاثة اللاجئين الفلسطينيين بغية الحصول على ما تيسر من المعونات التي كان يشفع لنا بالحصول عليها كرت المؤن المثقوب، تماما كما كان الوقت مثقوبا حتى نخاع التاريخ ..، كان ذلك الانتضار والتزاحم المضنيان لطفولتي يتمان في معظم المرات برفقة جدتي الطاعنة في السن.. انها المرأة التي ارغمها الاحتلال على ترك قريتها (ياسور) في فلسطين، ذات القرية التي كانت تعتبر مركز المملكة الاشورية آنذاك، وسميت بـ (ياشور) ومن ثم ياسور استنادا الى اسم ملك المملكة اشور .

لم اكن على اضطلاع ومعرفة بهذه المعلومة عن قرية ياسور الى ..

الا أن كبر في هذا الطفل الصغير واصبح شابا في مقتبل العمر يدرس في موسكو، تشاء له الاقدار ان يكون أحد الملتقين بالشهيد الراحل ياسر عرفات بقاعة القدس في مبنى السفارة الفلسطينية في موسكو، فيمطرني - أي الراحل عرفات - بهذه المعلومة عن قرية ياسور دون أن أكون حاملا لمظلة تقيني من فجائية الحدث، ومن خجلي الذاتي لفقر معرفتي بتاريخ قريتة أجدادي تلك !.

كان من الممكن ببساطة أن أضطلع مسبقا على هذه المعلومات ان تصفحت المعجم الفلسطيني، لكن التاريخ يأبى الا ان يضع بصامته على الواقع معوضا طفولته البائسة بكل حرمانها وتشردها، بظهور مارد عملاق يخرج من قمقم حكايات الطفولة المسلوبة، وخروجه الى العيان كأسطورة حية واقعية تشير باصابعها الى الحقائق.. وتناغم بذات الوقت حلم الطفولة المفقود، والذي لم تستطع أن تختصره حكاية أو رواية كرواية العملاق الراحل مع الملك آشور...

فما هي القصة معك يا ابا عمار !!

القصة ان العناية والرأفة الالهيتين قد لعبا دورا ايجابيا ومفصليا بكل المراحل التي عايشتها الشعوب منذ نشأتها ثم ترحالها في علاقاتها الداخلية والخارجية... الخ، وأهم أشكالها أن بعث في هذه الشعوب، رجال عقلاء مميزون، من اولي الامر فيها... يتبنون طموحاتها بكفاحهم، يترجمون أهدافها بادائهم، يرسمون لها معالم الطريق نحو الاستقرار والحرية والعيش الكريم بافكارهم وحكمتهم... :

 - "إحمس" احد فراعنة مصر القدماء حول منطقة النيل الى جنة خضراء بتحريره للعبيد هناك على أن يقوموا بزع المناطق المقفرة.

- الملك اليمني "تبع" وهو اول ملك يقوم بكساء الكعبة قبل الاسلام، أنقذ الجزيرة العربية والحبشة وجزءا كبيرا مما يعرف بافريقيا اليوم، من ويلات حروب طاحنة لدى اعلانه عن تخليه عن الحكم لصالح أعدائه الاقل منه قوة وباسا.

- "أرسطوطاليس" المعلم والمرشد الأول للاسكندر المكدوني نأى بحملات هذا القائد عن ان  تكون حملات استعمارية همجية، بل حولها الى حملات شبه تنويرية وتزاوجية بين حضارتي الشرق والغرب، كان من نتائجها على الاقل أن الكثير من القبائل تبنت وثيقة الشرف التي تنص على عدم الاعتداء على الفقراء والضعفاء، ذات الوثيقة التي اجمعت عليها القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية قبل الاسلام بمائة وثلاثين عام.

- "الماهاتما غاندي" الاب الروحي للشعوب الهندية جنب شعبه نار الحرب الاهلية حينما قام بتزويج ابنة أخيه من ابن زعيم الطائفة المتناحرة مع طائفته، كخطوة عبقرية ليتزاوج الحكم بين السيخ والهندوس، مما حدى بالشاعر الهندي الكبير "طاغور" باطلاق لقب "المهاتما عليه" مما يعني "الروح السامية"..

 

قدرنا ان تجسدت العناية والرأفة الالهيتين الانف ذكرهما بعقلانية الفرعون أحمس، وشجاعة الملك اليمني تبع، وحكمة ارسطو الاغريقي، وامكانية المهاتما غاندي بشخصية المارد العملاق بقامته الوطنية الموغله في دوم الوجه الحنطي العربي الفلسطيني، والضاربة قدماه عميقا في ارض فلسطين كجذور زيتونها وعروبة حقولها..

نعم .. انه ابو عمار، لذلك الحزن الوديع في عينيه، وبتلك التضاريس المتعرجة على وجهه كاغصان دالية تعانق سماء الوطن..، وبكل ما حملته كوفيته من دفئ يرد برد اللجوء، وحميمية تطرد قهر التشرد ..

أنه أبو عمار.. باجمل وأشجع مكابرة حملت في رحمها بشائر النصر والعودة:

الا أين مبحرون في عرض المتوسط يا ابا عمار !!!

- الى القدس ... الى القدس ... يا اخواننا !

 

رحل الفارس الاسمر الشجاع ... ورحل رحيلنا معه...، سنحط اليوم سفننا، وخيامنا، وما تبقى من زغاريد الأمهات في الحجرة الأكثر نبضا من القلب، كي لا ترحل تاركا الحصان لمن يستطع من بعدك أن يمتطي صهوته...، ان استطاعت الامهات انجاب عملاق جديد يخرج من قمقم الهزيمة منشدا أهازيج النصر.

 

بقلم د. عاصف العطي

أوديسا – أوكرانيا

11 – 11 – 2013م


المصدر: أوكرانيا بالعربية


مشاركة هذا المنشور:
الأخبار الرئيسية
سياسة
الدنمارك تعلن عن حزمة مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا
سياسة
اليونان تنفي توريد أسلحة سرًا إلى أوكرانيا
سياسة
رئيس الصين يدعو إلى التسوية السياسية للحرب الروسية الأوكرانية
أخبار أخرى في هذا الباب
آراء ومقالات
عن النصر والخوف والمعارضة...بقلم رئيس حركة "الأخوية القتالية الأوكرانية" بافلو جيربيفسكي
آراء ومقالات
الفساد العظيم الذي ضيّع أوكرانيا!..حسين الراوي
آراء ومقالات
الإجرام الروسي والطفولة الأوكرانية..حسين الراوي
تابعونا عبر فيسبوك
تابعونا عبر تويتر
© Ukraine in Arabic, 2018. All Rights Reserved.