أوكرانيا بالعربية | في ذكرى العدوان الثلاثي.. النصر الذي ظلمناه... بقلم هيام محي الدين
كييف/أوكرانيا بالعربية/حين فشلت الولايات المتحدة في الحلول محل انجلترا في مصر بعد إزاحة الاحتلال الإنجليزي ، حسب سياستها بعد الحرب العالمية الثانية في إزاحة حلفائها من مستعمراتهم والحلول بنفوذها محلهم ، وكان فشلها في مصر بالتحديد نتيجة لوعي سياسي من القيادة الوطنية لثورة 23 يوليو بزعامة جمال عبد الناصر ورفض للأهداف الأمريكية التي تمثلت في إدخال مصر في حلف دفاعي غربي عن الشرق الأوسط استكمالا لحصار الاتحاد السوفيتي وفرض الصلح مع إسرائيل وتصفية القضية الفلسطينية بدأ الأمريكيون سياسة عقابية ضد مصر فامتنعت بداية عن تسليح الجيش المصري حتى توافق مصر على الدخول في الحلف العسكري الغربي فردت مصر رداً مزدوجاً بالهجوم على حلف بغداد وإقناع الشعوب العربية بعدم الدخول فيه ثم عقدت صفقة السلاح السوفيتي مع تشيكوسلوفاكيا كغطاء سياسي مما آثار جنون الولايات المتحدة والدول الغربية ( إنجلترا وفرنسا ) ، وازداد النشاط المصري في دعم الدول المستعمرة وثورات الاستقلال الوطني فيها ، وتكوين كتلة من دول مؤتمر باندونج بالتعاون مع الهند ويوغوسلافيا تحت مسمى كتلة عدم الانحياز ، وكان ذلك النشاط مناهضا لسياسة الولايات المتحدة بصورة واضحة وردا عادلاً على سياستها العقابية المتسمة بالغباء والغرور وكانت خطط التنمية الطموحة التي وضعتها القيادة المصرية تضع على رأس أولوياتها مشروعا ضخماً لزيادة الرقعة الزراعية وتوليد طاقة كهرومائية تسهم في توفير الطاقة لخطط التصنيع والتحديث وكهربة الريف هو مشروع السد العالي الذي تعهدت الولايات المتحدة بالإسهام في توفير العملة الصعبة المطلوبة للمشروع المقدرة بـ 400 مليون دولار مناصفة مع البنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي تسيطر أيضاً على قراره ونتيجة للسياسة المصرية الاستقلالية التي رأتها الولايات المتحدة معادية لأهدافها فقد قامت الولايات المتحدة بسحب عرضها لتمويل السد العالي بصورة مسرحية مهينة لكرامة مصر من خلال مؤتمر صحفي عقده وزير خارجيتها " جون فوستر دلاس " في واشنطن أضاف فيه الإهانة إلى الرفض لتأديب مصر وإذلالها في 20 يوليو 1956 ، وكان رد جمال عبد الناصر على القرار الأمريكي صاعقاً فقد قام في 26 يوليو بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية مسترداً بهذا القرار حقا مصريا لمجرى ملاحي حفره فلاحو مصر بدماء مائة وعشرين ألفا ، ويجري في أرض مصر بينما تذهب عوائده إلى شركة أجنبية بمقتضى الامتياز الذي أعطى للشركة عام 1869 لمدة تسعة وتسعين عاما ؛ مما أشعل الغضب في أوربا الغربية خاصة إنجلترا التي جلا آخر جندي لها من قاعدة القناة قبل خمسة أسابيع وفرنسا التي كانت إدارة الشركة في يدها والغاضبة أيضاً من مساعدة مصر للثورة الجزائرية ، وكانت قواتهم العسكرية في البحر المتوسط في حالة من الضعف والتفكك لا يمكنهم من التدخل السريع ضد مصر بالقوة وتحتاج إلى ستة أسابيع على الأقل لحشدها وتهيئة العالم إعلامياً للتدخل العسكري تحتاج إلى وقت أطول ؛ ولكن الدولتين اتخذتا قرار التدخل العسكري منذ الوهلة الأولى واستغلوا الوقت المطلوب إعداد قواتهم في محاولة إحراج مصر دوليا وتصوير قرارها باسترداد مجرى ملاحي يجري على أرضها بأنه نوع من الاغتصاب والعدوان فعقدوا مؤتمراً للدول البحرية في لندن رفضت مصر حضوره ولكن الهند والاتحاد السوفيتي دافعا عن حق مصر وتبنيا وجهة نظرها في هذا المؤتمر الذي قرر بالأغلبية تدويل القناة وإرسال وفد من ممثلي خمس دول لإقناع عبد الناصر بقبول القرار ترأسه " روبرت منزيس " رئيس وزراء أستراليا في ذلك الوقت ، ويروي الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه القيم " ملفات السويس " جلسات هذه اللجنة مع الزعيم جمال عبد الناصر واستظراف وفكاهات رئيسها حين قام بتقليد " ونستون تشرشل " وتحيته لتمثال نصفي للخديو إسماعيل مما يوحي بعدم جدية اللجنة في الوصول إلى حل دبلوماسي سلمي لأنهم كانوا يعرفون أن إنجلترا وفرنسا تحشدان للحرب ، وبعدها أوعزت الشركة السابقة للمرشدين الأجانب بالانسحاب من العمل في 15 سبتمبر 1956 مع حشد عدد كبير من السفن لعبور القناة حتى تخرج الإدارة المصرية للقناة وتصورها أمام العالم بأنها عاجزة عن إدارتها ، ولكن القيادة المصرية كانت قد تحسبت لهذا الأمر بتدريب سريع على عمليات الإرشاد لعدد من ضباط البحرية المصرية إلى جانب إقناع المرشدين اليونانيين بعدم الانسحاب وفشلت الخطة ، وكان الإعداد العسكري لإنجلترا وفرنسا لغزو مصر قد اكتمل وبقى افتعال سبب شكلي لتبرير العدوان ؛ وكانت العلاقات الفرنسية الوطيدة بإسرائيل وقيامها بتسليحها تقليدياً وذريا بإهدائها مفاعل ديمونة الصغير فاستغلت فرنسا لهفة إسرائيل لضرب مصر قبل أن تستوعب سلاحها السوفيتي الجديد وأشركتها في المؤامرة رغم تردد بريطانيا وتم لقاء ثلاثي في مدينة سيفر الفرنسية بين دافيد بين جوريون رئيس وزراء إسرائيل وجي موليه رئيس وزراء فرنسا وسلوين لويد وزير خارجية بريطانيا وانتهى إلى كتابة اتفاق تبدأ فيه إسرائيل الحرب في آخر ضوء ليوم 29 أكتوبر 1956 مما يعطي مبرراً لتدخل إنجلترا وفرنسا لحماية القناة بعد 12 ساعة وسجل الاتفاق في ورقتين وقعة بن جوريون عن إسرائيل وكريستيان بينو عن فرنسا والسير باتريك دين عن بريطانيا وتم تنفيذ الخطة كما رسموها.
وواجهت مصر العدوان الثلاثي بعبقرية ملهمة فالمسرح الدولي والعربي كان في صفها بل إن معظم العالم كان تقريباً معها نتيجة لنجاحها الإعلامي والدبلوماسي في تأكيد حقها في القناة وكشف عدوانية ولا أخلاقية المعتدين ونجحت في إنقاذ القوات التي عبرت القناة إلى سيناء وإعادتها إلى غرب القناة كاملة وسالمة من خلال قتال بطولي قامت به ست كتائب مصرية لتغطية الانسحاب قاتلت بأعلى مستويات الآداء العسكري حتى تم رجوع القوات خاصة الفرقة الرابعة المدرعة وهوجمت سفارات بريطانيا وفرنسا في كل أنحاء العالم تقريبا من سنغافورة إلى بيونس ايرس ثم نسقت سوريا خطوط نقل البترول إلى ميناء بانياس الذي يشحن منه إلى أوربا وانهار الجنيه الاسترليني ووصلت خسائره إلى عشرة مليارات في أسواق العملة وكانت عملياتهم العسكرية قد تعثرت في بورسعيد ولم يتمكنوا من تجاوزها جنوباً إلى الإسماعيلية نظراً لحشد الجيش المصري ومحافظته على قدراته القتالية إلى جانب المقاومة الشعبية الناجحة داخل بورسعيد ثم جاء الإنذار السوفيتي للدول الثلاث مهدداً بضرب عواصمها بالصواريخ وصل الختام لعدوان كان كارثة على من قاموا به على كل المستويات فاضطرت إلى قبول قرار وقف إطلاق النار وأرسلت الأمم المتحدة قوات طوارئ دولية للمرة الأولى في تاريخها لتشرف على جلاء البريطانيين والفرنسيين عن بورسعيد والذي تم في 23 ديسمبر 1956 بعد أن كبدتهم المقاومة الشعبية في المدينة خسائر فادحة خاصة في الضباط من ذوي الرتب الرفيعة كما تم جلاء إسرائيل عن سيناء وقطاع غزة بعد مماحكات صهيونية طويلة خاصة بالنسبة لقطاع غزة في مارس 1957 ؛ وسقط حلف بغداد نهائيا بعد عجز حكام دوله عن تبرير تحالفهم مع بريطانيا التي اعتدت على دولة عربية وإسلامية كبرى هي مصر ، وتخلصت مصر أثناء العدوان وبعده من الشركات والبنوك البريطانية والفرنسية التي كانت تسيطر على الاقتصاد المصري في بعض جوانبه واعتبرت أموالها تعويضا عن خسائر الحرب وسقط حكام دول العدوان واحد بعد الآخر فاعتزل أنتوني إيدن رئيس وزراء بريطانيا وانتهى مستقبلة السياسي بعد وقف إطلاق النار بأسبوع واحد ، واستقال بن جوريون واعتزل في مستعمرة " سيد بوكر " ولم ينقض عام حتى كان الجيش الفرنسي في الجزائر قد قام بانقلاب تحت قيادة الجنرال " شال " وسقطت الجمهورية الثالثة كلها في باريس وعاد ديجول إلى السلطة ليعلن قيام الجمهورية الرابعة.
وأسدل الستار على حكام بريطانيا وفرنسا الذين قاموا بالعدوان على مصر وانتهى تماماً مستقبلهم السياسي.
كم بغت دولـة علىّ وجـارت .. ثم زالت وتلك عقبي التعدي
إن مجرى في الأوليات عريق .. من له مثل أولياتي ومجدي
هيام فوزى محى الدين
كاتبة و صحفية وإعلامية مصرية
المصدر: أوكرانيا بالعربية