أوكرانيا بالعربية | مــا مـعـنـي كلـمــة وطــن ؟ !.. بقلم حسن زايد
كييف/أوكرايانيا بالعربية/موقفان دفعاني دفعاً إلي كتابة هذا المقال . الأول ـ اتصال تليفوني من أحد المشاهدين ، مع برنامج " توك شو " ، علي إحدي القنوات الخاصة ، مفاده كما أفصح المشاهد : " أن وزير كذا يدافع عن مصالح أبناء وزارته ، ووزير كذا يدافع عن مصالح أبناء وزارته . ألا يوجد وزيراً للغلابة ؟ ! " . فيبدو أنه قد أسقط في يد مقدم البرنامج ، لأنه لا يوجد حقاً وصدقاً وزيراً للغلابة ، فما كان منه ـ خروجاً من هذا المأزق ـ إلا أن قال بأن الرئيس هو وزير الغلابة . الثاني ـ موقف صديق فيسبوكي ، يقرأ مقالاتي ، فوجئت به في حوار خاص يقول لي : " كل كتاباتك عن الصفوة ، ألا تكتب عن الغلابة ؟ ! " . فأسقط في يدي ، رغم أنني لا أكتب عن الصفوة أو النخبة ، وإنما أكتب عن الأحداث والمواقف ، وللخروج من هذا المأزق وعدته بالكتابة عنهم .
والواقع أن الإنسان نتيجة طغيان الأخبار وتواترها ، وما يترتب عليها من مواقف سياسية ، يجد نفسه مدفوعاً بالإنشغال بما يجري علي السطح ، دون أن يكلف خاطره بالنظر إلي موضع قدمه ، حيث يوجد هو مع المهمشين والغلابة والمطحونين بين شقي الرحي . وعدم الكتابة ليس امتناعاً ، ولا تعالياً ، ولا استنكافاً ، ولا علواً في الأرض ، وإنما استعفافاً وترفعاً وحياءً من أبناء هذه الطبقة .
تلك الطبقة المدهوسة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً ونفسياً وفكرياً رغم كونها الأغلبية ، وهي عماد هذا المجتمع وعموده الفقري ، ووقوده في العمل وقت السلم ، وفي المعارك وقت الحرب ، وأحد عناصر رأسماله المستثمر في التنمية والتقدم .
فحين نتكلم عن الجوانب الإجتماعية لها ، نجد أنها طبقة مفتتة ممزقة ، لا ينشغل بها المجتمع ، رغم كونها تنشغل به ، وله ، وكل ما يشغلها في الحياة هو الكد والسهر علي لقمة العيش ، العمل يوماً بيوم ، كي يتوفر لأفرادها قوت اليوم بالكاد ، وقد يجري إدماج وجبتين في وجبة واحدة ، ليس لكنز ثمن إحدي الوجبتين ، وإنما لضيق ذات اليد عن كفاية وجبتين متتاليتين . وقد ينام أحدهم يطوي معدته علي جوعه ، لعله يجد في نومه مخرجاً من عويلها . تجد هؤلاء في مجتمع يعاني بعض أفراده من فرط التخمة والترف والرفاه ، والوجبات الساخنة المستوردة من البلاد البعيدة علي متن طائرات خاصة ، ليس لقدرات خاصة عند أغلبهم ، ولا لما آل إلي معظمهم بطريق الإرث ، وإنما الثراء الفاحش الهابط علي رؤسهم ، من حيث لا ندري ، إذ ليس من السماء ، حيث أننا قد تعلمنا صغاراً أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة ، وليس هذا من قبيل الحقد الطبقي ، وإنما صرخة من قيام المجتمع علي عدم تكافؤ الفرص بين أبناءه . ولا حقد ولا حسد ولا ضغينة فيما يأتيك من حلال ، وينفق في الحلال . دون استثمار في الفقر والمرض .
وحين نتكلم عن الجانب السياسي لهذه الطبقة ، فلا نجدهم سوي أنهم وقود لمعارك الأغنياء السياسية ، وأداة من أدوات توزيع الأدوار بينهم فيما يؤول إليهم من سلطة أو مال . فأفراد هذه الطبقة ما هم سوي أرقام صفرية في المعادلة السياسية ، يتم ترحيلهم من اليمين إلي اليسار والعكس مجاناً ، بحسب الحاجة والظرف السياسي . أما ما تدعيه الديمقراطية من كونها تحقق نظرية حكم الشعب بالشعب وللشعب ، فهو إدعاء لا يلتفت لوجود هذه الطبقة ، واللعبة السياسية كلها محصورة بين طبقة الأغنياء في المجتمع ، تدور معها وجوداً وعدماً . وإن كانت الماركسية تقول بأن الدين أفيون الشعوب ، وهو قول باطل . فأنا أقول ـ وعن حق ـ بأن الديمقراطية هي أفيون الشعوب ، وإن كانت هي أفضل صور المشاركة السياسية في العالم حتي الآن . فحيث لا يكون لمجموعة أو شريحة أو طبقة من الناس من دور في المشاركة السياسية ، سوي انتظار موسم الإنتخابات ، حتي يفيض عليهم الأغنياء بما تجود به أنفسهم ، من مأكل أو ملبس أو نقود ؛ لسد الجوعة أو ستر العورة أو مواجهة غوائل الحياة ، فلا حياة .
أما إقتصادياً فحدث ولا حرج ، وابدأ من نقطة الصفر ، ثم اهبط حتي تصل إلي ما تحت القاع . من الموظف أو العامل الذي يعمل ليل نهار ـ عمل يمتصه حتي نخاع العظام ـ ولا يكاد يكفي أهل بيته ، من مأكل أو مشرب أو ملبس أو مسكن ، ويستدين حتي يكمل دائرة الشهر ، ويدخل في دائرة الفقر ، التي إذا دخلها لا يكاد يخرج منها إلا إلي قبره ، تاركاً رغماً عنه من يعول يتكففون الناس . ثم انزل درجة إلي من يعمل باليومية ، ثم إلي أولئك الذين يتسولون بما يحفظ عليهم بقية من كرامتهم المبعثرة علي أرصفة الحياة ، بقيامهم بمسح سيارات المارة ، أو مسح الأحذية ، أو بيع المناديل ، أو الزهور في إشارات المرور ، أو أولئك الذين يكنسون الشوارع ، وينظرون إليك نظرة من ألجأتهم الحاجة إلي النظر . أو من يتسولون وهم مطاردون بالنظرات والكلمات في مجتمع ضن عليهم بالعمل . إلي من يفترشون الأرض ، ويلتحفون السماء ، أرديتهم علي قذارتها تستر العورة ، ولا تقي من البرد ، ليس باختيارهم ، ولا تمرداً منهم علي رغد العيش ، وبحبوحة الحياة ، وإنما لأنهم ليسوا رقماً في حياة هذا الوطن حتي يجدوا في أنفسهم مبرراً موضوعياً للولاء والإنتماء .
أما النواحي الفكرية والنفسية فهي بنت هذا التردي والسقوط المروع لهم ولمجتمعهم الذي همشهم ، وضن عليهم ، ونظر إليهم شذراً وتأففاً ، وألقي بهم إلي هامش الحياة . وهنا يأتي السؤال : أليسوا أبناءًا للوطن ؟ . فما معني الوطن إذا لم يكن فيه وطن ؟ . لا أملك فيه مسكناً يؤيني ، ولا ملبساً يسترني ، ولا مأكلاً يسد رمقي ، ولا مشفاً يعالجني ، ولا أحداً يحنو علي .لا شئ لي فيه ولا معني ، فما معني كلمة وطن ؟ !
. ألم يأن لنا أن نلتفت إلي هؤلاء باعتبارهم شركاء الوطن ؟ ! . أفيقوا يرحمنا ويرحمكم الله ! .
حسن زايد
كاتب مصري ومدير عام
المصدر: أوكرانيا بالعربية