أوكرانيا بالعربية | كيف دمرت الحروب المذهبية أوروبا؟! ... بقلم هاشم صالح
كييف/أوكرانيا بالعربية/لكي أفهم ما يجري الآن في العالم العربي، فإنني مضطر للبحث عن سوابق تاريخية من أجل المقارنة. إذا لم نكن قادرين على إسعاف الناس عمليا فعلى الأقل لنساعدهم نظريا. كيف؟ عن طريق شرح ما يحصل لهم من فواجع وكوارث تنزل على رؤوسهم دون أن يدركوا أسبابها العميقة بالضرورة. سوف يحصل حتما «صراع التفاسير والتأويلات» بين المثقفين العرب، كما كان يقول الفيلسوف بول ريكور، وإن في سياق آخر. سوف يتنافسون على تفسير ما يحصل وسوف يزعم كل واحد منهم أن تفسيره هو الصحيح والبريء والناجع.
فوجئت مؤخرا بأن المؤرخ الفرنسي الشهير فرناند بروديل كان يخشى في نهاية حياته أن تعود الحرب المذهبية إلى فرنسا! ومعلوم أن الصراع الكاثوليكي - البروتستانتي أنهك البلاد والعباد على مدار قرنين على الأقل. وقد ترسخت الذكرى المرعبة لهذه الحرب الأهلية المدمرة إلى درجة أنها ذهبت مثلا. فعندما يختلف الساسة الفرنسيون الحاليون فيما بينهم ويحتدم النقاش جدا ويسخن فإنهم يقولون لبعضهم البعض: لا نريد أن نجعل من هذه القصة حربا مذهبية! بالطبع فإن بروديل كان يعرف أن فرنسا لن تعود إلى تلك الأيام السوداء، حيث كان الكاثوليكي يذبح البروتستانتي على الهوية أو العكس. كان يعرف أن فرنسا تجاوزت ذلك بعد أن قضى التنوير الفلسفي على العصبيات المذهبية والطائفية قضاء مبرما، بعد أن استنارت العقول.
لا لن تعود الأصولية الكاثوليكية إلى فرنسا ولا مجازر سانت بارتيليمي الشهيرة التي صفق لها بابا روما آنذاك غريغوري الثالث عشر واعتبرها بمثابة «انتصار الإيمان الصحيح على الكفر والزندقة»! ولكن يمكن أن يحصل الانشقاق على أسس أخرى غير دينية. بل وكاد يحصل طيلة الحرب الباردة بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي. فالمثقفون كانوا آنذاك يلعنون بعضهم بعضا مثلما كان يفعل رجال الدين في القرون الوسطى. انظر الصراع الجهنمي بين سارتر وآرون مثلا.. ومعلوم أن الآيديولوجيات السياسية هي أديان العالم المعاصر. فالناس ينقسمون حولها ويتعصبون لها كما يتعصب المتدين لدينه. ثم تجاوزت فرنسا هذه الحرب الآيديولوجية مثلما تجاوزت الحرب الطائفية سابقا. ولكن ألم تدمر أوروبا طيلة حربين عالميتين بسبب الفاشية والنازية؟ ربما كان بروديل يخشى أن تندلع صراعات مستقبلية تشق الفرنسيين إلى قسمين متصارعين على أسس جديدة لا أحد يعرفها.
لكن لنعد إلى حرب الأديان والمذاهب. من المعلوم أن الأكثرية الكاثوليكية سحقت الأقلية البروتستانتية سحقا في القرن السابع عشر. المحرقة الأولى في التاريخ لم تكن محرقة الأرمن، وإنما محرقة البروتستانتيين الفرنسيين، والكاثوليكيين الإنجليز! الطائفية والطائفية المضادة. لقد شبعوا من بعضهم بعضا قبل أن يجلسوا على «طاولة التاريخ» لكي يؤسسوا الدولة المدنية الحديثة ومفهوم المواطنة والعقد الاجتماعي. أما كان من الأفضل أن يفعلوا ذلك قبل أن يذبحوا بعضهم بعضا؟ دون شك. ولكن الإنسان كما يقول هوبز، ذئب لأخيه الإنسان، ولن يكف عن ذبحه إلا إذا تفككت العصبيات الطائفية وظهر على أنقاضها وعي جديد.
لقد حفر اضطهاد البروتستانتيين في الذاكرة الجماعية الفرنسية جرحا عميقا لم يندمل إلا بصعوبة بالغة وبعد ثلاثمائة سنة! والدليل على ذلك كلام بروديل نفسه. أخشى ما كان يخشاه هو انقسام الفرنسيين على أنفسهم. وكذلك الأمر فيما يخص ديغول. فلولا قوة شخصيته ومقدرته على جمعهم حوله لانهارت فرنسا. كم هو عدد البروتستانتيين الذين قتلهم لويس الرابع عشر أو أجبرهم على ترك مذهبهم واعتناق مذهب الأغلبية؟ حتما مئات الألوف.
كم عدد الذين فروا من البلاد هائمين على وجوههم في الطرقات والدروب؟ ثلاثمائة ألف شخص بحسب تقديرات المؤرخين المعاصرين. ولم يشعر الملك الجبار بغلطته إلا بعد أن حصلت. ذلك أن معظم الهاربين كانوا من الكوادر العلمية والهندسية والطبقات البورجوازية المثقفة.
وهكذا خسرت فرنسا خبرات وطاقات كانت بأمس الحاجة إليها. ليس غريبا إذن أن تكون إنجلترا قد سبقتها إلى النهضة والتصنيع بعد هذه الكارثة. ينبغي العلم بأن البروتستانتيين الهاربين التجأوا إلى البلدان البروتستانتية المجاورة لكي تحن عليهم وتؤويهم. وقد قدموا لها كل خبراتهم وأسهموا في تنويرها وتطويرها. لقد لجأوا إلى برلين ولندن وجنيف وأمستردام، بل ووصلوا حتى إلى كندا. وعندما احتفلت فرنسا في اليونيسكو قبل سنوات معدودات بمرور ثلاثمائة سنة على اضطهاد البروتستانتيين راحت تعتذر عن هذه الجريمة النكراء التي ألحقتها بنفسها. راحت تخجل من هذه الصفحة السوداء لتاريخها وتعتذر عن هذا التدمير الذاتي للذات. وقد شاركت في الاحتفال شخصيات كندية من أصول بروتستانتية. وكم دهش الحاضرون عندما وجدوا أن الكثيرين منهم لم يغيروا أسماءهم الفرنسية حتى بعد مرور ثلاثة قرون على مغادرة أسلافهم لفرنسا!
ما أريد أن أقوله في نهاية هذا المقال هو أن شعوبنا العربية قد تتعرض لمثل ما حصل في هذه البلدان التي أصبحت الآن متقدمة جدا ولا أثر للتعصب الطائفي فيها. ولكن لنعد إلى الوراء قليلا لكي نفهم أين كانوا وأين أصبحوا. فالتقدم لم ينزل عليهم كهدية من السماء. وإنما دفعوا ثمنه عدا ونقدا. وهنا يكمن عزاؤنا الوحيد: التقدم ممكن في تاريخ البشرية. نعم التقدم ممكن، والهمجية الطائفية ليست قدرنا الوحيد! ولكن هل سننتظر ثلاثمائة سنة لكي نصل إلى ما وصلوا إليه من وحدة وطنية واستنارة عقلية وازدهار؟
أقول ذلك وفي القلب جرح. فإنه لشيء يحز في النفس أن يكون الشعب السوري قد أصبح مشردا بمئات الألوف على الطرقات والدروب وهو الشعب العزيز الأبي الذي لا يهان!
يهان! او الشعب العراقي الذي عانى من الالم الذبح الطائفي المميت. . السؤال المطروح الآن هل نستفاد من التجربه الاوربيه في تجاوز الكوارث الطائفيه؟؟ ومتى؟؟؟؟؟
هاشم صالح
كاتب وباحث ومفكر ومترجم
بقضايا التجديد الديني ونقد الأصولية
المصدر: الشرق الاوسط