أوكرانيا بالعربية | السم والترياق... بقلم هيام محي الدين
كييف/أوكرانيا بالعربية/المعرفة هي القضية الرئيسية التي تشكل مفتاح الدخول إلى المستقبل ، فقد أصبحت المعرفة وتطبيقاتها التقنية وتوزيعها تقود النشاط الإنساني ، كما أنها تحدد مصير الإنسان المعاصر ، والمعرفة هي القوة حيث تقاس قوة الأمم على الساحة الدولية بمقدار إنتاجها للمعرفة وقدرتها على تسويقها ، ومادامت المعرفة هي القوة فإنها بالتالي هي السلطة ، فقد تحولت السلطة من قوة السلاح إلى قوة المعرفة ؛ فالمعرفة الفاعلة والمتمكنة هي صاحبة القرار في شتى الأمور ، وهي تحليل المعلومات وتأويلها وصولا إلى بناء نظم ذهنية تحيط بالظاهرة فحين تتحول المعلومات إلى معرفة ذهنية من خلال إعادة استخدام التحكم بالواقع والتعامل مع المنتج المعرفي بالتحليل والنقد هنا تبلغ السيطرة الذهنية على المعرفة مداها المطلوب ، لتصبح المعرفة جزءا من التكوين الذهني وتكتسب صفة المرجعية ، وحين تتحول المادة الفكرية إلى توجهات كبرى في الحياة تمثل المرجعيات الأساسية للمواقف والسلوك والأفكار تستطيع أن تسيطر على قضايا الحياة والمصير.
وإذا كان الإنسان جاهلا فالكل قادر على خداعه ، فمن يفتقد القدرة على تطوير نفسه ومتابعة التغيرات السريعة في الحياة ويفتقد الحرص على الاطلاع والقراءة والمعرفة لتوسيع مداركه سيصبح وسيلة سهلة للاستغلال من الآخرين ومن لم يكن قادرا على التفكير بشمول فسيظل تحت رحمة مكائد الآخرين ودسائسهم وألاعيبهم يلعبون به كيفما شاءوا من أجل مصالحهم وغاياتهم ويصبح أداة سهلة مستغلين جهله وسذاجته وحسن نواياه ليسيطروا عليه سيطرة تامة فهناك من هو قادر على إقناعه من خلال استغلال نصوص دينية مستغلة حماسه الديني والعقائدي كما أنه بفكره المحدود يسهل قياده ويتم التأثير عليه ، فلعن الله الجهل ولعن معه التعصب: أما الجهل فهو سبب الضلال والإضلال والتعصب يأتي نتيجة الجهل فيهدر قيمة العقل ؛ ولكن الجهل قبل وصوله للتعصب قابل للحوار ؛ فيمكن محاورة من يجهل وتغيير مفاهيمه بزيادة جرعة المعرفة عنده ونقله خارج مقبرة الجهل ليعود إلى الحياة أما إذا وصل إلى درجة التعصب فإنه لا يستمع لآخر ويلغي فكره تماما حيث تسيطر عليه فكرة واحدة لا يعترف بغيرها ؛ ورغم رفضنا للجهل وتمسكنا بالعلم والمعرفة والإصرار الدائم على العمل على توسيع مساحة المعرفة وتطويرها ورغم أننا نكره الجهل ونمقت التعصب إلا أنه قد يخطر ببالنا أن التعصب أخطر من الجهل وإن كانا مرتبطين كسبب ونتيجة. فالتعصب والحقد مقترنان كنتيجة حتمية للإصرار على الجهل ، وقد أصبحنا ندرك بيسر أن الجهل بأمر ما يعود إلى انعدام محاولة المعرفة به ، وقد تسهم الأمية في توطن الجهل في العقول الكسولة ولكنها ليست سببا رئيسياً أو وحيدا لشيوع الجهل فقد تعلم الإنسان الحكمة وإدراك مسار الأمور بالعقل النشط فيرى الآخر بعين فاحصة ويمارس التجربة الحياتية المدركة بعقل متفتح بدون أن يتعلم القراءة والكتابة ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا لا يقرأ وكانت هذه الأمية إحدى معجزات قدرته الرفيعة وعلمه الغزير.
[ وينتشر الجهل بين الكثير من المتعلمين وحملة الألقاب العلمية ويتضح في تعاملهم اليومي وتدني مستوى ذكائهم الاجتماعي في اللقاءات والحوارات المجتمعية والعلمية خاصة المتعلقة منها بالشأن العام والرؤية السياسية والمجتمعية للمشكلات وحلولها ]. فالجهل نتاج العقل الخامل والشخصية المرتعدة والتفكير المتخلف.
وتعطينا العلوم بشقيها الإنساني والتقنى بأن " الأنا " عندما تتخطى حدود " أنا ونحن " وتقتصر على القفز في مستنقع " الأنا " فقط وتعاني الذات من النقص الذي نطلق عليه مصظلح " النرجسية " التي تظهر على سلوك الفرد متمثلة في الإدعاء الكاذب والزهو بالنفس والتبجح الأناني هؤلاء الذين وصفهم القرآن في قوله تعالى " لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاوَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العَذَابِوَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) "(آل عمران) صدق الله العظم وهي حالات نقابلها في حياتنا اليومية في العمل والشارع والنادي وفي كل جلسة تضم جماعة من الناس ونلمس فيهم هذه الظاهرة ظاهرة الأنانية والتعصب التي تغلف سلوكهم وتمتلئ بها أحاديثهم.
إن التعصب كارثة على أهله قبل أن يكون عدوانا على الآخر ، وهو انغلاق للعقل وطمس للبصيرة وحجر على حرية الرؤية والتفكير ، والتعصب ليس اختيار الفرد أو فرضا من مجمتع وإنما ينشأ من خلال بيئة تقوم على التعصب لعرق أو قومية أو عقيدة أو مذهب أو طائفة تمارسه بحسن نية فيتربون عليه وتبرمج عقولهم على اساسه ويصبحون أسرى له لا يسمحون بمناقشة عقلية لما يتعصبون له ويحرمون على عقولهم البحث فيه فتنغرس أفكاره البعيدة عن العقل والمنطق في أعماق وجدانهم وتشكل طبيعتهم دون محاولة إخضاع ما يتعصبون له لعملية تفكير محايدة تبين حقيقته من زيفه أو تسمح بقبول نقد أو معارضة له.
[ فالتعصب كارثة على من يأخذون به وهم ضحايا لبيئة أثمر فيها هذا الوباء ثماره المرة ، وهو من أشد نتائج الجهل خطرا وأقوى عوامل التخلف تأثيراً ، فهو الأحط والأسوأ لتأكيده على الأحقاد والتنافر وتصدره كسبب رئيسي للتناحر والحروب فهو مرض قاتل إذا تخلصت منه الأمم استطاعت أن تحقق وحدتها الوطنية وتقدمها وازدهارها ؛ ولكن شعوبا كثيرة في العالم مازالت تعاني من هذا الوباء القاتل لأحلام الأمم ومازالت تعيش الانقسام والتشرذم والأحقاد التي تعوق تقدم الشعوب باعتناقها لهذا الداء العقيم.
هيام فوزى محى الدين
كاتبة و صحفية وإعلامية مصرية