أوكرانيا بالعربية | القرآن الكريم وفلسفة التاريخ... بقلم د. عادل عامر

إن نقطة البداية التي ننطلق منها لفحص علم التاريخ لأي أمة هي وظيفة التاريخ وواجب المؤرخ، وعلم التاريخ في أي مجتمع يخضع لعوامل محيطة مختلفة وتكيفه قيم فكرية تختلف موازينها من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة أخرى. إن الأصل التاريخي لكلمة تاريخ هي "Istoria" إستوريا الإغريقية نشأت عندما بدأت الحركة الفكرية والسياسية عند الإغريق في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وكان يقصد بهذا التعبير الأشياء الجديرة بالمعرفة كالبلاد والعادات

كييف/أوكرانيا بالعربية/إن نقطة البداية التي ننطلق منها لفحص علم التاريخ لأي أمة هي وظيفة التاريخ وواجب المؤرخ، وعلم التاريخ في أي مجتمع يخضع لعوامل محيطة مختلفة وتكيفه قيم فكرية تختلف موازينها من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة أخرى. إن الأصل التاريخي لكلمة تاريخ هي "Istoria" إستوريا الإغريقية نشأت عندما بدأت الحركة الفكرية والسياسية عند الإغريق في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وكان يقصد بهذا التعبير الأشياء الجديرة بالمعرفة كالبلاد والعادات والمؤسسات السياسية المعاصرة أو الماضية، وسرعان ما أصبحت كلمة istoria الإغريقية مقتصرة على معرفة الأحداث التي رافقت نمو هذه الظاهرة، وبذلك ولد تعبير التاريخ بمعناه الشائع وتحولت الكلمة إلى history بمرور الزمن، وأصبحت فكرة تاريخ تعني عملية تطور الإنسان حتى أصبحت فكرة التاريخ في القرن التاسع عشر هو كل شيء يمكن إدراكه، وأصبح التاريخ بهذا فكرة شاملة، وأصبح كل النشاط الإنساني هو موضع بحث التاريخ(4) وهنا يلتقي التاريخ مع علم الفلسفة حيث كليهما يبحث في تحليل وتطور النشاط الإنساني سواء كان ثقافي أم اجتماعي أو سياسي. وعندما شعر المؤرخون بالحاجة إلى تعريفات عامة للتاريخ وعلم التاريخ فإن تعريفاتهم لا تكشف عن معني عميق وشامل لهذا العلم وفائدته إلا من خلال تعريف بن خلدون له. 

كما أنّ فلسفة التاريخ أيضاً تشابه العلوم الطبيعية والإنسانية من جهة غاية العلم وهي الغايات العملية في الطبيعية لأجل تسخير العلوم الطبيعية لصالح الإنسان، وأمّا بالنسبة إلى فلسفة التاريخ، فالهدف من ذلك تزويد الإنسان بأحكام تمكّنه من أن يفهم معنى الأحداث الحاضرة أو المستقبلية في ضوء خبرته بالماضي، وقد ذكرنا في موسوعة الفقه في كتاب الفقه المستقبل: إنّه كيف يمكن استمداد المستقبل من الماضي والحاضر؛ لأنّ الزمان يشبه بعضه بعضاً، والحضارات تشبه بعضها بعضاً، بحسب ما نستفيد من القياس، أو التمثيل، أو الاستقراء من الجهات المشابهة سواء كانت الحضارات صحيحة، أو باطلة، أو كانت أموراً اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو تربوية، أو غير ذلك، مستقيمة أو غير مستقيمة، مثل الاقتصاد الرأسمالي، أو الاقتصاد الشيوعي، أو الاقتصاد الاشتراكي، أو غير ذلك من اتحاد الاقتصاد. وعلى أي حال: فإنّ فلسفة التاريخ منهج علمي يستفيد من منهج العلم ومن غاية العلم، كما أنّه يستفاد من ذلك احتياج العلم إلى الدين، وأنّه لا يمكن للعلم أو الدين أن يؤثر لوحده، فهما جناحان للحضارة الصحيحة، وقد أضحت غاية العلم خدمة أغراض الدين، فإنّ العلم بدون الدين لا يتمكّن أن يخدم الإنسان، بل كثيراً ما يكون العلم آلة للهدم بيد الإنسان، كما رأيناه في هذين القرنين بالنسبة إلى البلاد الغربية، وقبل ذلك كان دين المسيحية دون وجود أي دور للعلم، فأفسدت الكنيسة إفساداً لا مثيل له. تعرض القرآن في آيات الأحكام إلى جميع أنواع ما يصدر عن الإنسان من أعمال. وإلى العبادات، من صلاة وصوم وحج وزكاة، وإلى الأمور المدنية كبيع وإجارة وربا، وإلى الأمور الجنائية من قتل وسرقة وزنا وقطع طريق، وإلى نظام الأسرة من زواج وطلاق وميراث، وإلى الشؤون الدولية كالقتال وعلاقة المسلمين بالمحاربين وما بينهم من عهود ووعود وغنائم الحرب. وهو في هذا كله لا يتعرض كثيراً للتفاصيل الجزئية. إنما يتعرض غالباً للأمور الكلية.

فهو لا يتعرض في الصلاة مثلاً إلى أوقاتها وهيئاتها. وفي الزكاة إلى مقدار الواجب فيها وأنواع ما يجب. وهكذا في بقية الأبواب. بل ترك ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم يبينه بقوله وفعله. (القرآن) تكلم عن أصل الأنواع، والنبات والحيوان، ومصير العالم، ودورة الأرض والطبيعة، والكيمياء والطب، والتشريح، والفلك، وعلم النفس، وقواعد الاجتماع، والجمهورية والملكية. والتنويم المغناطيسي، واستحضار الأرواح، وغير ذلك من قواعد العلوم الكونية. وعدا عما ذكرنا فإن (القرآن) يرشد الإنسانية إلى ما فيه سعادتها، وحفظ كيانها، وطهارة قلوب أبنائها، واستنارة عقولهم، ويدعو إلى التفكير في دراسة جميع النظريات العلمية باستخدامها بالطرق النافعة. وكم في القرآن من أحكام غامضة، ومعان دقيقة، ولما يكشف الفن نقابها ويرفع عنها حجابها رغماً عما بلغه من الرقي، ولم تستلفت تلك الأحكام (ويا للأسف) أنظارنا معاشر المسلمين المتأخرين فضلاً عن إدراكنا أهدافها وسبب ذلك أن قلوبنا القاسية، ونفوسنا العاصية، وأفهامنا القاصية، هي العامل الوحيد في الحيلولة بيننا وبين إدراك ما ذكر. ولكن الرؤية الإسلامية الى التأريخ لا يمكن ان تنظّر إلا عن طريق هذا الإطار القيمي والمفاهيمي العام ذي المصدر القرآني، وإلا أصبحت هذه الرؤية الى التأريخ غير اسلامية كما هو الامر بالنسبة للرؤية التأريخية لدى المحدثين في العالم الإسلامي، الذين حجزوا افكارهم داخل الفلسفة الغربية جملةً وتفصيلا، وفرضوا رؤى هذه الفلسفة على تاريخ الأمة الإسلامية. فهم مثلا يقسمون تاريخ الأمة على غرار تاريخ الغرب الى عصر وسطي يصفونه بالعصر الظلامي والى عصر الانوار...الخ، كما ينظرون الى حركة تاريخ الشعوب الإسلامية انطلاقاً من صراع الطبقات وتطور وسائل الانتاج، وما ينتج عنه من تطورات اجتماعية وسياسية وثقافية في نظرهم. وقد وصل المحدثون الى تقسيم تاريخ الأمة، انطلاقاً من هذه الرؤية، الى مراحل كمرحلة العبودية والاقطاعية، وتوقعوا ظهور المرحلة الرأسمالية في العالم الاسلامي ثم مرحلة الاشتراكية، وأخيراً المرحلة الشيوعية كمنتهى لحركة الأمة عبر التأريخ. يمكن القول، في هذا السياق، بان ربط التأريخ  بالتعالي ليس مسألة عقائدية فحسب، بل هو كذلك مسألة معرفية. إنّ الفكر المحدث في العالم الاسلامي يربط هو الآخر التأريخ بالتعالي، لكنه تعالي مزيف.

نقصد بالتعالي هنا، وبالنسبة للاتجاه المحدث، الافكار المسبقة التي يدرس هذا الاتجاه حركة الأمة انطلاقاً منها. هذا النوع من التعالي هو تعالي من صنع البشر أي ايديوليوجيا يعرف المفكر عن طريقها وبصورة مسبقة حركة التأريخ  ماضياً ومستقبلا. فهنا تطرح مشكلة على الصعيد الابستمولوجي على اعتبار أنّ الفكر المحدث في العالم الإسلامي جعل تاريخ الأمة كموضوع في خدمة المنهج المعد سلفاً. في حين أنّ العكس هو الصحيح على الصعيد العلمي: فالمنهج هو الذي يخضع للموضوع ويتغير تبعاً لتغير المواضيع. إنّ الايديولوجيا من صنع الانسان: وهي غالباً ما تقوم كعائق امام البحث العلمي في مجال العلومولكن متى لانت القلوب، وتهذبت النفوس، وأخليت الأفهام من الخرافات والأوهام، وسمت المدارك وبلغت كمالها، واتسعت العلوم والفنون ووصلت غايتها فلا ريب أن أهداف القرآن العظيم ستنجلي وتصبح البشرية ضمن دائرته. لأن قانون التكامل الطبيعي تدريجي كما لا يخفى على القارئ الحصيف.


د. عادل عامر

دكتور في الحقوق وخبير في القانون العام

 رئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية

 عضو المعهد العربي الأوروبي للدراسات الإستراتجية

 والسياسية بجامعة الدول العربية


المصدر: أوكرانيا بالعربية

مشاركة هذا المنشور:
الأخبار الرئيسية
سياسة
أوستن: ستبدأ طائرات إف-16 ستبدأ في الوصول إلى أوكرانيا هذا العام
سياسة
إسبانيا واليونان ترفضان تسليم أنظمة دفاع جوي إلى أوكرانيا
سياسة
اللجنة الأمنية في البرلمان السويسري تؤيد تخصيص 5.5 مليار دولار لأوكرانيا
أخبار أخرى في هذا الباب
آراء ومقالات
عن النصر والخوف والمعارضة...بقلم رئيس حركة "الأخوية القتالية الأوكرانية" بافلو جيربيفسكي
آراء ومقالات
الفساد العظيم الذي ضيّع أوكرانيا!..حسين الراوي
آراء ومقالات
الإجرام الروسي والطفولة الأوكرانية..حسين الراوي
تابعونا عبر فيسبوك
تابعونا عبر تويتر
© Ukraine in Arabic, 2018. All Rights Reserved.