أوكرانيا بالعربية | الوجود وأزمة الانسان... بقلم هشام عبده
كييف/أوكرانيا بالعربية/في خضم العوالم المتسارعة ذات التفاعلات المعقدة، إضافة إلى الأحمال المتراكمة بإطراد على كاهل الذات وارتحال الإنسان عن حوضه الطبيعي ، أصبحت لا مفهومية الوجود شيء أكثر حدة
من ذي قبل، وحيثما كثرت تفاصيل غير مفهومة للذات بدا إنها عبث غير ذات قيمة، اصبح السؤال عن جدوى ومعنى الحياة أكثر إلحاحا على تلك الذات المغتربة عن الطمأنينة، وفاقدة اللذة أو المعقولية في الدائب على مر الأيام .
أسئلة معقولة ،قد تكون جالت أو تجول خاطرنا، ربما نهتم بالإجابة عن أسئلتنا تلك، أو نضعها جانباً ونحيا وفي داخلنا شعور بعبثية الوجود، أو بأنه ثمة غاية، وقد نؤمن بالأديان، وما تقوله حول هذه التساؤلات، أو نعتقد بمذاهب فلسفية ونحيا وفق مفاهيمها وإجاباتها، ورغم إن هذه الأسئلة قد تكون ذاتية أحياناً، إلا إنها ذات بعد موضوعي، لا ينبغي مطلقاً الإستهانة به، ومن الضروري مناقشتها بروح من المنطق والعقل والعلم بعيداً عن الهوى .
ثمة فهم خاطئ حول طبيعة المتسائل، فعادة ما يقال أن سائل هذه الأسئلة هو في الغالب إنسان يعاني من إحباط ولديه فشل من نوع ما؛ لكن هذا ليس شرطاً منطقياً والحقيقة تختلف عن ذلك الإعتقاد، فالمحبطون والذين فشلوا في أمور حياتية يسألون هذه الأسئلة، لكني أعتقد إنه سؤال منطقي أيضاً، تفرضه عقلانية مفرطة في التفكير بالحياة والوجود ،وكذلك الإحساس بذاته وإن لم يكن هناك فشل ،ولا أغالي في القول إن معظمنا لابد وللحظة ما أن فكرنا في ه
ذا الأمر نتيجة الروتين والتكرار ،والطواف الدائم في حلقة حياتية ودائرة مغلقة على نفسها تفتقد للتجدد ،إزاء هذه الاستمرارية المملة التي تختال حياة الفرد، وبتراكم الضجر وهيمنة الضيق على أعماق النفس الإنسانية من هذه النمطية لابد من أن نفضي يوماً ما إلى السؤال عن قيمة كل ذلك، وليست النمطية وحدها بل أمور كثيرة تدفع الفرد صوب أسئلة المعنى والقيمة وكما أشرنا منها العقلانية المفرطة !
كل ما صنعه وأبدعه البشر كانت خلفيته غاية ما من تلك الغايات إنطلقت المصنوعات والنشاطات والأبحاث والآداب ،السكين لأجل القطع ،وزراعة القمح لأجل الخبز ،وهو بدوره لأجل البقاء، والعلوم الطبيعية
والإنسانية لأجل الإنسان ذاته كي يتمكن من الحياة بصورة أكثر رفاهية وأقل قلق ولإرضاء الفضول الكامن في طبيعة الإنسان .
وبدوره الوجود الكلي يتساءل الإنسان لماذا الوجود موجود ،لماذا نحن موجودون ما الهدف من الوجود، وعن معنى حياة الفرد، ما معنى حياتي ؟ هل ثمة ما يجعلني أستمر؟ لماذا لا ننتحر جميعاً ؟
الظاهر أن الطبيعة بما فيها الحياة والحيوية تشكلت بشكل عشوائي من أجل لا غرض ولاهدف أو إنها كما الوجود كله موجودة دونما أن تكون معقولة مبررة منطقيا .
حاولت الديانات والفلسفات الروحية منذ القدم أن تضع الإنسان في موضع يسمو به فوق الحقائق الظاهرة ،وإن توهم البشر بأن لحياتهم غرض إلهي ،أما من الناحية العلمية فالإنسان حيوان كسائر إخوانه في الرئيسيات، تطور من كائنات أقل ذكاء وبدورها تطورت حتى نعود للخلية الواحدة وبدورها إلى التفاعلات الحيوية بين المادة، وتلك المادة شكل من أشكال الطاقة ،الطاقة التي تزعم مكانيكا الكوانتي إمكانية نشوئها من لاشيء .
بهذا تكون نظرية الخلق قد سقطت واحتمال وجود الله قد تدنا إلى مستويات دنيا علمياً وعقلانياً ،كذلك سقط الإنسان من موضع الكائن الموجود لغرض ما ليكون كأي شيء كائناً في الوجود بلا غرض .
مَن يكترث لأوجاعنا، ومشاكلنا والمصاعب الجمة التي تواجهنا ؟ مَن يكترث لجوع أطفال أفريقيا ؟ ومن يبالي بموت الآلاف ذبحاً لكي يدخل البعض الأخر الفردوس المزعوم ؟
إن الطبيعة بكل ما فيها تؤكد لحظة بلحظة على العبث ،وتاريخ نشوء الحياة، وتاريخنا نحن البشر يؤكدان على إننا مجرد صدفة عابرة في خضم الصيرورة الطبيعية الوجودية اللامعقولة ،إننا الكائنات الحية ،إننا ربما بعد ملايين أو مليارات السنين على أعتاب الفناء، كما تتنبأ الفيزياء الكونية، فأين يكمن المعنى إن كان الوجود الحية الوحيد الذي نعرفه سيكون فانيا ؟ لمجرد إن الكون سيتقهقر بحكم القوانين الفيزيائية أو أن الشمس ستخمد بحكم نفاذ مخزونها من الهيدروجين، فإذا كانت هذه صورة الوجود فلنا أن نستنتج أنه مهزلة رهيبة لكن وهل ينبغي أن ندع حياتنا القصيرة وسنواتنا القليلة تمضي هكذا في فوضى العبث ؟
تقريباً جميع الفلاسفة الذين بحثوا مشكلة العبث توصلوا في نهاية المطاف إلى إلغاء إحدى حدود المعادلة الوجودية التي تؤدي إلى إدراك الوجود بما فيه العبث (الذات الحية + العقل الواعي = مدرك الوجود) .
فالهاربون من الحد الأول في المعادلة هم المنتحرون وهذا إلى حد كبير هزيمة وإقرار بعبثية الوجود .
والهاربون من الحد الثاني هم المؤمنون بالغاية الإلهية، الذين يقدمون على الانتحار العقلاني، وهو نفي العقل والتمسك بالإيمان كحل للتخلص من فكرة وشعور العبث الناتج عن تفكير العقل .
إن إدراكنا لخلو الوجود من المعنى بذاته والغاية ووعينا بذلك هو الذي من المحتمل أن يمكننا من أن نخلق لأنفسنا معاني عديدة في حياتنا فلولا الوعي ما كنا لندرك عبثية الوجود لكنه الوعي ذاته فيه تكمن إمكانية سعادتنا.
تخيل، الحياة في كوننا نعلم علم اليقين إنه بلا غاية وفيه بهذا العقل البشري المبدع والخلاق نواجه الواقع ترى كيف يمكن أن يكون ذلك أمراَ سيئا ؟
بشكل مستقل عن غرائزنا، فالحياة في وجود غريب كما هو بالفعل، هو أكثر إرضاء لأي مثابر أو ثائر من الحياة في آخر من عالم الأوهام والأكاذيب التي اخترعت لتبرير وجودنا نحن، فهنا تكمن الحرية واللذة والبحث عن المعرفة والسعي للسعادة والآفاق البارقة والخطوات المتجددة المتمردة الوثابة، وهنا أيضاً لدينا القدرة على التمرد على اللامعقول وجعل العالم برمته معاً أو حياتنا الشخصية أكثر معقولية، وأكثر إنسانية وهذا ما يتطلب من البشر تفكيراً عقلانياً من نوع آخر يصب في خدمة الحياة ذاتها، بما تحمله هذه الكلمة من معاني الإدراك والتطور والإبداع والمحبة والجمال والطمأنينة، نعم نقدر على عمل ذلك لكن ثمة ما يجعل الكثيرين لا يريدونه أو يريدونه في عالم آخر ما وراء الموت حيث العدم .
لماذا لا ننتحر جميعاً؟ بالنسبة لي أقر بسطوة العبث وايضا روعة التمرد ، والمعنى الممكن لحياتي ، فماذا عنك؟
هشام عبده
كاتب عربي مصري
المصدر: أوكرانيا بالعربية