أوكرانيا بالعربية | الحــرية ومقـتـضـيـات الأمـن القــومي... بقلم حسن زايد
كييف/أوكرانيا بالعربية/هناك غلالة رقيقة للغاية للغاية تفصل بين الحرية والأمن القومي ، فإذا هتكت الحرية هذه الغلالة من جانبها تحولت إلي فوضي . وإذ هتكت مقتضيات الأمن القومي هذه الغلالة من جانبها تحولت إلي استبداد . والمصلحة تقتضي الحفاظ علي هذا الخيط الرفيع الرابط بين الأمرين دون انقطاع ينجم عن الشد أو إرخاء يفضي الهتك . والعلاقة بين الحرية والأمن القومي في مصر في حالة خصومة ، فلا تجد متحدثاً عن الحرية إلا واتخذ موقفاً معادياً من الأمن القومي باعتباره الذريعة التي تستند إليها الأنظمة الإستبدادية في تبرير عسفها بالحريات والتغول علي الحقوق الإنسانية المقررة . ولا تجد متحدثاً عن الأمن القومي إلا وقد غالي في الإعلاء من شأنه إلي حد المطالبة بوأد الحريات بغير مقتضي انتصاراً لفكرة الأمن القومي . وكأنه لا سبيل للجمع بين القضيتين في صعيد واحد دون صراع يفضي إلي هدم إحداهما لحساب الأخري . ونظراً لأننا لسنا في مجال التنظير لمفهومي الحرية والأمن القومي ، ولا بصدد استعراض فلسفة جون لوك عن قيمة الحرية وحقوق الإنسان .
فإنه يحضرني واقعة دالة . ففي مقتبل العمر جندت ضابطاً احتياطياً بالجيش المصري ، وكنت انتقل وزميل لي من مدينة إلي أخري في أتوبيس نقل عام ونحن نرتدي الزي العسكري . وتصادف عدم وجود مقاعد خالية ، فوقفنا في الممر بين المقاعد ، والذي سرعان ما تكدس بالركاب .
وأثناء سير الأتوبيس في المسافة بين المدينتين ، تجاذبت وزميلي أطراف الحديث في أمور شتي ، حتي عرج بنا الحديث إلي تناول بعض الأحداث البسيطة التي كانت تجري بين المجندين في وحدتنا العسكرية ، وهي أحداث بسيطة في نظرنا لا ترقي لمستوي السرية أو حتي التحفظ العادي في تناولها . ورغم انشغال الركاب بالأحاديث الجانبية ـ كعادة المصريين في قتل الوقت ـ إلي حد عدم انتباه أحد إلي ما يقوله الآخر . فوجئت بيد تمسك بيدي اليمني وتطبقها علي وريقة صغيرة ، ولم ألتفت إلي صاحب اليد ، ولم أعرفه ، ولم أحاول التعرف عليه . وواصلت الكلام ويدي متدلية إلي جانبي مطبقة علي الوريقة ، وبعد لحظات رفعت يدي بما فيها ، وفتحت الوريقة المطبقة ، وقرأت عبارة : " لا تفشي أسرار وحدتك العسكرية " . وضعت الوريقة في جيبي وواصلت الحديث محولاً دفته إلي اتجاه آخر .
وبعد ذلك تحاورنا مع أهل الإختصاص حول هذه الواقعة ، فقيل لنا تبريراً أراه مقنعاً ، مفاده :" أن الطعام الذي يتناوله الجنود يعد سراً عسكرياً ، لأنه علي أساس هذه المعلومة يجري احتساب عدد السعرات الحرارية ، وما يرتبط بها من حسابات أخري متعلقة بالجهد المبذول سواء في التدريب أو أثناء المعارك ، وقوة الإحتمال المتوقعة .. الخ " . وبغض النظر عن الدقة العلمية التي ينطوي عليه هذا التفسير ، إلا أنني خرجت من ذلك بدرس بليغ مفاده أن حريتي في الحديث لابد أن يكون لها حد حتي لا تهتك الغلالة الفاصلة بينها وبين الأمن القومي ، لأنني سأجد في الجانب الآخر من يعترض تغولي عليه ، وهتكي لستره ، وعبث أصابعي بأرنبة أنفه .
وأنا لا أقدم بذلك تبريراً للإستبداد ، ولا تنظيراً لانتهاك الحريات . وإنما فقط أردت القول أنه ليس هناك حرية إلي ما لانهاية ، لأن لانهائيتها تعني التغول علي حريات الآخرين ، ورغم كونها حاجة إنسانية في حاجة إلي إشباع ، فهي كذلك لكل إنسان . لذا فإنها كاستحقاق طبيعي لابد وأن تكون منضبطة بسقف وحدود ، فالإنسان حر في دائرته الخاصة ، أما خارج هذه الدائرة فهو خاضع بالضرورة لضوابط نظامية تكفل للآخر حريته في مساواة تامة للجميع تحت مظلة واحدة . ويدخل في إطار هذا السقف ما يطلق عليه اصطلاحاً " الأمن القومي وهو يعني حماية القيم الداخلية للدولة من التهديد الخارجي لها وحفظ كيانها وحقها في البقاء . ومع ذلك فإن مفهوم الأمن القومي يكاد يكون سيئ السمعة لارتباطه بالقمع الداخلي الذي تمارسه بعض الدول الإستبدادية ، والأنظمة الدكتاتورية . فهل يعني ذلك في أي صورة من الصور الذهنية إمكانية الإستغناء عن الأمن القومي من أجل الحفاظ علي الحرية التي يسعي بعض الأفراد للمطالبة بها بغير سقف أو حدود ؟ . أو التجاوز عن تجاوز مقتضيات الأمن القومي ومتطلباته نتيجة سمعته السيئة وحفاظاً علي الحريات ؟ . في مصر أرادها البعض كذلك . فقد اتخذ من موقف الدولة في مواجهة التجاوزات التي ارتكبها البعض علي نحو يمثل تهديداً للأمن القومي ذريعة لمهاجمة النظام ، ووصمه بالسعي إلي الترويج لنظرية المؤامرة من أجل تكريس الدكتاتورية التي يجري التأسيس لها علي قدم وساق ، وتبرير الإجراءات القمعية ضد معارضيه . وهو كلام ينطوي علي مغالطة فادحة من قائله ، لأن ما تكشف بعد ثورة يونيه 2014م من مؤامرات دولية تحاك ضد المنطقة ،ومصر، لا يخفي . بعد فضحه من خلال ممارسات فعلية علي الأرض من أطراف أجنبية وعربية وداخلية . ومن ثم لا محل للقول باختلاق المؤامرة كي يجري التمهيد لدكتاتورية قادمة . ووجود أطراف ممن تصدروا المشهد الثوري قد تورطوا في خيوط المؤامرة علي نحو أو آخر ، لا يعني بحال أن الثورة ليست ثورة . كما أنه لا يعني بنفس القدر غض الطرف عمن تآمر بدعوي أنه ثوري . لأن من تآمر قد قبض الثمن فلا دين له في عنق مصر حتي يستذلها بثوريته .
وتبقي خيانته لبلده قائمة في عنقه حتي يجري القصاص منه جزاء خيانته . أما عن القول بأن الحديث عن المؤامرة في الظرف الثوري الراهن يساق في إطار التبرير لقمع المعارضين ، فلا أدري معارضين لمن ؟ ولماذا ؟ . فإن كانوا معارضين للثورة من باب حرية الرأي والتعبير فلا ضير . أما أن تنتقل هذه المعارضة إلي حمل السلاح في مواجهة الدولة والمجتمع فلابد أن تنتقل من خانة المعارضة إلي خانة الإرهاب والخيانة . ومن يدافع عن الإرهاب والخيانة ويبحث لهما عن مسوغات ، فإنه واقع في دائرتيهما لا محالة . لأن دفاعه يحمل في طياته نوع من التحريض علي هذه الأفعال المؤثمة . فإذا قيل عنه بأن وطنيته منقوصة أو أنه طابور خامس أو أنه خلية نائمة فذلك لأن المجتمع لا يعرف لهذه الأفعال مسميات أخري في قاموس اللغة . وإلا فليقل لنا أصحاب هذه الفلسفة الغريبة أي المصطلحات تنطبق علي هذه الأفعال . ولا ينسي وهو يبحث في قاموسه عن هذه المصطلحات أن البلاغة في مطابقة المقال لمقتضي الحال .
حسن زايد
كاتب عربي ومدير عام
المصدر: أوكرانيا بالعربية