أوكرانيا بالعربية | البحث عن الدفء في العلاقات المصرية الروسية... بقلم حسن زايد
كييف/أوكرانيا بالعربية/هناك عبارة جرت علي الألسنة جريان المثل الدارج في عالم السياسة مؤداها أنه فيما بين الدول : " لا توجد صداقات دائمة ، ولا عداوات دائمة ، وإنما توجد مصالح دائمة " . فالدول في تعاملاتها ، لا تعرف سوي المصالح ، وتدور الصداقة والعداوة مع المصالح وجوداً وعدماً ، وهي معاملة برجماتية خالصة ، لا محل فيها لمقتضيات التجمع البشري الإنساني . وهذا الكلام فيما أري لايصح علي إطلاقه ، فإن صح في زمان ، فقد لا يصح في زمان آخر ، وإن صح في مكان ، فقد لا يصح في مكان آخر ، وإن صح في الزمان والمكان ، فقد لا يصح من إنسان إلي آخر في المجتمع الواحد ؛ لأن علاقات المصالح نتيجة ، وليست مقدمة للعلاقات الإنسانية ، فالعلاقات القائمة علي الجوانب الإنسانية مقدمة منطقية وطبيعية لعلاقات المصالح ، والعكس غير صحيح .
ومن هنا فإن الإحتفاء المبالغ فيه بالجوانب الإقتصادية والعسكرية لزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقاهرة هو احتفاء في غير محله ؛ لأن هذه الجوانب هي النتيجة المنتظرة من عودة الدفء المفقود بين البلدين . وبالتنقيب في صفحات التاريخ ، سنجد أن منطلق العلاقة الروسية المصرية ـ في الأصل ـ كان قيمياً ، وليس مصلحياً ، فقد قامت هذه العلاقة علي اعتبارت دينية ، وكانت كلمة السر فيها الكنيسة الأرثوذكسية ، حينما زار ولي العهد الأمير إيفان فاسيليفتش ، الذي صار فيما بعد : " إيفان الثالث " ـ أول قيصر لروسيا القيصرية ـ مصر عام 1554 م ، وكان برفقته الدوقة الكبري أنستازيا ، وكبار رجال الدين المسيحي الروسي .
وبعد هذه العلاقات القائمة علي أسس قيمية دينية ، جاءت علاقات المصالح المتبادلة ، فكانت أول إتفاقية إقتصادية وقعت بين البلدين في عهد الملك فاروق الأول " 1943 م " ، وبمقتضاها كان يتم مقايضة القطن المصري بالحبوب والأخشاب الرسية " الإتحاد السوفيتي سابقاً " ، وامتد التعاون إلي الجانب العسكري كذلك ، حين التقي وزير الخارجية المصري ، في الحكومة الوفدية ، إبان العهد الملكي ، لنظيره الروسي ، وتقدم له بطلب يفصح فيه عن رغبة مصر في شراء أسلحة روسية ، رغبة في تغيير السلاح الغربي الذي كان يعتمد عليه الجيش المصري في حينه ، علي أن يكون مقابل الصفقة المالي مدفوعاً من القطن المصري ـ ذلك القطن الذي أعلن وزير الزراعة الحالي التوقف عن دعمه ـ إلا أن هذه الصفقة تعثرت بسبب اندلاع حريق القاهرة في 25 يناير سنة 1952 م ، الذي أطاح بالحكومة الوفدية .
وقد جاءت الصفقة بعد ثلاث سنوات ، في اول تعاون مع حكومة الثورة ، فيما عرف تاريخياً بصفقة الأسلحة التشيكية ـ نسبة إلي تشيكوسلوفاكيا التي كانت عضواً بحلف وارسو ـ في أعقاب مؤتمر باندونج في إبريل 1955 م ، والذي تمخضت عنه حركة دول عدم الإنحياز ـ بزعامة تيتوا ونهرو وعبد الناصر ـ في مواجهة حلف وارسو ، وحلف شمال الأطلنطي "الناتو": . وقد قدم الروس لمصر / عبد الناصر المساعدات في المجالين العسكري والإقتصادي ، حيث ساهموا في تحديث القوات المسلحة تسليحاً وتدريباً ، وأسسوا المصانع الحربية في المجال العسكري ، وساعدوا في بناء مصانع الحديد الصلب في حلوان ، ومجمع الألمونيوم بنجع حمادي ، وغيرهما من المصانع التي مثلت قاعدة صناعية كبري لمصر ، وساعدوا في بناء السد العالي ، الذي أنتج الكهرباء ، وحول نظام الري من ري الحياض ، إلي الري الدائم . هذا بخلاف أن روسيا مثلت ظهيراً دبلوماسياً قوياً لمصر / عبد الناصر في العديد من المعارك السياسية التي كانت تخوضها . هذا بخلاف تعويض مصر عن الأسلحة التي خسرتها في حرب يونيه 1967 م ، واستقدام آلاف الخبراء للتدريب عليها .
وينبغي ألا ننسي أن مصر قد خاضت حرب اكتوبر بالسلاح الروسي ، رغم ما شهدته العلاقات المصرية الروسية من توتر في عهد الرئيس الراحل / أنور السادات ، انتهت بقطع العلاقات ، وطرد 17 الف خبير روسي دفعة واحدة . الأمر الذي شكل إهانة بالغة للحليف الروسي ، وانقلاباً في العلاقات المصرية الروسية ، بعد أن أعلن الرئيس السادات أن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا ، وقد بانت توجهاته شطر الغرب بإعلانه انتهاج سياسة الإنفتاح الإقتصادي ، والتخلي كلية عن معاهدة الصداقة والتعاون ، التي وقعت بين البلدين سنة 1971 م ، بعد خمس سنوات من توقيعها . وتوقفت مصر تماماً عن شراء السلاح الروسي قبيل توقيع اتفاقية السلام مع اسرائيل ، واتجهت إلي شراء السلاح الأمريكي . بل إن مصر قد شاركت مع السعودية وأمريكا في ضرب روسيا في افغانستان إبان الغز الروسي لها سنة 1979 م باستخدام سلاح الدين والمجاهدين . وقد بدأ التحسن التدريجي في العلاقات بين البلدين في أعقاب انهيار الإتحاد السوفيتي في أواخر ثمانينيات ، وأوائل تسعينيات القرن الماضي ، في عهد الرئيس الأسبق مبارك ، حيث كانت مصر في طليعة الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع روسيا الإتحادية . إلا أن هذه العلاقات لم تعد إلي سابق عهدها ، لاستمرار مبارك علي خطي سلفه في علاقاته بالغرب وأمريكا . وفي عهد الرئيس الأسبق محمد مرسي ،لم تشهد العلاقات أي تحسن ، فقد كان الغرض المعلن من الزيارة تطوير التعاون في مجال الطاقة النووية ، وبحث مجالات التعاون الأخري ، ففوجيء الرئيس الروسي بطلب مرسي بعدم إدراج جماعة الإخوان علي قوائم الجماعات الإرهابية بحسب تقارير صحفية .
وجوبه مطلبه بالتجاهل ؛ لأن روسيا قد اكتوت من قبل بلهيب مجاهدي أفغانستان ، وكذا مجاهدي الشيشان . ثم جاءت الوقفة التاريخية الشجاعة للجانب الروسي ، حين أعلن بوتين وقوفه إلي جانب الشعب المصري في خياره في 30 يونيه 2013 م ، ولهذا الموقف أسبابه الموضوعية ، من بينها انهيار النظام والدولة الليبية ، والصراع المسلح في سوريا ، التي تمثل إطلالتها الوحيدة علي المياه الدافئة . وقد واكب ذلك الدق العنيف علي البوابة الغربية لروسيا ، متمثلة في أوكرانيا ، التي أصبحت عضواً في حلف الناتو بعد انفصالها عن روسيا . وحصار روسيا إقتصاديا ً ، في ظل هشاشة باكستان ، ولا دولة أفغانستان ، والتحالف الخفي الإيراني / الأمريكي ، وغلق البوابة المصرية لأفريقيا والعالم العربي بنظام حكم الإخوان . ومن هنا جاء الموقف الروسي من الثورة المصرية ، باعتبارها المفتاح السحري لبوابة الشرق الأسط ، تلك المنطقة الدافئة التي تفتت برودة الحصار الغربي عليها . والحقيقة أن الموقف المصري قد وجد نفسه متناغماً مع الموقف الروسي ، في مجابهة الموقف الغربي الأمريكي ، الذي تنكر للثورة المصرية ، وتهجم عليها ، في قراءة معكوسة للمشهد المصري ، وقد يكون في عودة الدفء إلي العلاقات المصرية الروسية إلي سابق عهده ، مدخلاً لخلق توازنات دولية جديدة ، والولوج إلي عالم متعدد الأقطاب ، وكسر الإحتكار الأمريكي للقطبية الذي جر علي البشرية العديد من الشرور .
حسن زايد