أوكرانيا بالعربية | تجديد الخطاب الديني.. الحديث وعلومه... بقلم هيام محي الدين
كييف/أوكرانيا بالعربية/لم يختلف المسلمون حول أمر من أمور مصادر التشريع ؛ كما اختلفوا حول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء من تدوينه وتسجيله وانتهاء بقوته وضعفه ؛ فكل المسلمون يجمعون على أن سنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم وهي المفسرة والمنفذة والمطبقة لأحكام الله ؛ كما اتفقوا على أن السنة الملزمة سواء كانت بالقول أو الفعل مصدرها الوحي ؛ وقد تضاربت الروايات حول الوقت الذي بدأ فيه تدوين الحديث وتسجيله وكذلك السيرة النبوية المحتوية على تنفيذ وتطبيق أحكام الدين وكيفية ممارسة العبادات وقواعد السلوك ؛ فهناك روايات تقول أن تدوينا تم لبعض الأحاديث بدأ في العصر النبوي وفي حياة الرسول ؛ ولكن تناقضها روايات أخرى عن الرسول نفسه وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مدة خلافته تنهي عن تدوين الحديث حتى لا يختلط بالنص القرآني بل وتعاقب من يفعل ذلك حتى بالإكثار من الرواية الشفهية " نهى عمر لأبي هريرة عن رواية الحديث وتوعده له وغضبه الشديد على قوم دونوا أحاديث وحرقه لما دونوه ".
وقد كان الصحابة الأوائل لقرب عهدهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ولقدرتهم على التمييز بين ما قاله رسول الله وفعله مبلغا عن ربه كرسول واجب الطاعة وملزم للأمة وبين ما قاله وفعله كإنسان بشر ؛ أو نبي متفرد بقدرات خصه الله بها ليست ملزمة لغيره ؛ ونلاحظ هنا أن الأمر الإلهي في القرآن جاء ملزما للمؤمنين بطاعة الرسول والأخذ بما آتانا به الرسول وليس الإنسان ولا النبي " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول" " وأطيعوا الله ورسوله " ؛ ولم يوجب طاعة لما قام به الرسول وقاله بصفته إنساناً بشراً ولا بوصفه نبيا مؤيداً ومختاراً ؛ لذلك لم تظهر أي مشكلات أو خلافات في تطبيقات الصحابة الأوائل وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون للسنة النبوية الملزمة أو مخالفتهم لبعض ما قاله الرسول وفعله لعلمهم أنه ليس من الوحي الملزم وإنما هو سلوك فرضته ضرورة عصر ومصلحة زمن ورؤية بشر ؛ ولذلك كان معظم الصحابة والتابعين شديدي الورع والخشية عند روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يتثبتون في قبول الأخبار وروايتها مخافة ألا تكون الرواية أو الحديث مؤكداً أو لا يكون دقيقاً كما صدر عن النبي ولكن أحداث الفتنة الكبرى التي أعقبت مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وانقسام الأمة إلى فرق متناحرة من منطلق سياسي ركب موجة الدين واتخذوه سلاحاً لتأييد رأيهم السياسي كالشيعة والخوارج والمؤيدين لاستقرار الأمة ووأد الفتنة الذين عرفوا فيما بعد بأهل السنة والجماعة تعرضت السنة النبوية وخاصة الحديث للدس والوضع والاختلاق ؛ فصارت كل فئة تضع الأحاديث وتنسبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد رأيها السياسي والرد على المعارضين لهم أو تحقيق مصالح دنيوية ورفع شأن من يرون من الصحابة أو آل بيت رسول الله وشاع الوضع واختلاق الأحاديث بشكل خطير في أواخر القرن الهجري الأول وأوائل القرن الثاني مما دفع الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز إلى إصدار توجيه مكتوب لأبي بكر بن حزم عام 101هـ نصه " انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه ؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ؛ ولا تقبل إلا حديث رسول الله ؛ ولتفشوا العلم " ولكن تدوين الحديث خلال النصف الأول من القرن الثاني الهجري لم يسلم من افتراء المختلقين والوضاعين مما دفع الإمام أبا حنيفة للحذر الشديد في الأخذ بالحديث والتشدد في التثبيت من صحته حتى يأخذ به وتفضيله للأخذ بالرأي والمصالح السائرة على الأخذ بحديث يتطرق إلى صحته أدنى قدر من الشك أو يتعارض مع القرآن أو مشهور السنة ، ووضع شرط الإسناد وكتب مسنداً عرف باسمه وكذلك فعل الإمام مالك في كتابه " الموطأ " ؛ كما كتب الشافعي كتاباً مسندا في الحديث وكذلك ابن شيبة وأشهر كتب الحديث التي سارت على منهج الإسناد قبل الصحاح هو مسند الإمام أحمد بن حنبل الذي حوى ثلاثين ألف حديث مسند إلى روايته في سلسلة رواية تصل به إلى الصحابة الذين سمعوه من الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقد روى عن أحمد أنه سمع سبعمائه ألف حديث اختار منها أحاديث مسندة التي حققها وصححها بنفسه !! وقال عنها أنها المشهور من الحديث وأنها لم تصح كلها عنده ولكنه لا يخالف ما ضعف منها ؛ إذا لم يكن هناك ما يدفعه ، وقد قام ابنه عبد الله بن احمد بتبويبه وفهرسته ؛ وفي النصف الثاني من القرن الثالث الهجري وصل منهج تحقيق الإسناد إلى أعلى مستويات الضبط على يد الإمام البخاري ومن بعده الإمام مسلم فقد وضع البخاري قواعد التحقق من أمانة وصدق الرواة ومعاصرة الناقل للمنقول منه ولذلك سمى كتابه في الحديث بالصحيح ؛ وكذلك سمى كتاب مسلم ، ولذلك حازت أعمالها على ثقة العلماء ونالا درجة عظيمة عند معاصريهم تحولت إلى درجة تقديس مطلق عند الأجيال التالية خاصة في عصور الضعف وضمور الفكر ؛ وخطيا في هذه العصور ومازالا عند الكثيرين من علمائنا المعاصرين على مكانة تعلو مكانة البشر ؛ وتضارع مكانة الرسل وتعلو عليها عند بعض المتعصبين فيكفي أن يكون الحديث مرويا في صحيح البخاري أو صحيح مسلم للأخذ به كأمر ديني ملزم حتى لو كانت به شبهة تعارض مع القرآن أو مشهور السنة أو العقل أو لغة العصر النبوي أو المصالح السائرة ؛ وقد تبعهما في اعتماد نفس المنهج علماء آخرون كالترمذي والنسائي والطبراني والبيهقي وابن ماجة وغيرهم ؛ ورغم أن أحاديث صح سندها عند البخاري ومسلم رفض أئمة المذاهب السابقون عليهم الأخذ بها مثل رفض أبي حنيفة لحديث " لا زواج إلا بولي وشاهدي عدل " المروى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لأنها هي نفسها لم تعمل به وزوجت ابنة أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر في غيبته ودون موافقته كولي على ابنته ، ومثل رفض مالك لعدة أحاديث صحت سندا عند البخاري ومسلم رغم أن مذهب مالك يعتمد على الحديث لا على الرأي مثل مذهب أبي حنيفة ؛ الذي وضع قواعد أكثر حذراً في الأخذ بالحديث تضيف إلى صحة السند عدم التعارض مع القرآن والسنة المشهورة وما يسوغه ويقبله العقل ؛ واتساقه مع لغة عصر الرسول ولكن السند كان العمدة في الأخذ بالحديث عند أهل الصحاح ؛ ولم يدققوا في غيره من الضوابط تدقيقهم في صحة السند ؛ وكان تصنيف الحديث لديهم بين الصحيح والحسن والضعيف وغيرها من تصنيفات الحديث لديهم خاصة في أحاديث الآحاد ؛ يعتمد على صحة الإسناد ؛ كما لم يكن لديهم الوعي الدقيق الذي امتلكه كبار الصحابة في التمييز في أقوال النبي وأفعاله كإنسان بشر يعيش عصره وبيئته وكنبي مؤيد من الله له قدراته الخاصة التي لا يشاركه فيها غيره وكرسول مبلغ عن ربه واجب الطاعة فيما يبلغه ؛ لذلك اعتبرت كل أفعال الرسول وأقواله وحتى هيئته وزيه دينا واجب الاتباع ؛ وبالغوا في تقديس كتاب الصحاح خاصة الإمام البخاري لدرجة أنهم جعلوا صحيحة أصدق كتاب بعد كتاب الله لا يأتيه سهو أو خطأ من بين يديه ولا من خلفه ؛ وأن كل ما جاء فيه غير قابل للنظر ولا للنقد ولا للفحص العلمي في ضوء علوم العصر ؛ وكفروا من يطالب بذلك ؛ وقد كان لابن حجر العسقلاني أشهر شراح صحيح البخاري " فتح الباري في شرح صحيح البخاري " دور كبير في تقديس الإمام البخاري وصحيحه فقد كتب عن صفاته وأخلاقه وتقواه ومعجزاته وكراماته في مقدمة شرحه ما يفوق ما تحلى به أولو العزم من الرسل ؛ ووصل الأمر في بعض العصور القريبة العهد منا في الماضي القريب إلى اعتبار أن قراءة صحيح البخاري لها درجة ثواب قراءة القرآن ؛ وأن من يقرأ البخاري يصبح مستجاب الدعوة وشاع قول مأثور نصه " قراءة البخاري لا تخيب وإن الله سميع مجيب ".
ولا جدال في أننا نقدر جهود هؤلاء الأئمة الأجلاء ودورهم العظيم في الحفاظ على تراثنا الديني ونقله إلينا واجتهادهم وتقواهم وعلمهم ؛ وقصدهم وجه الله تعالى ومرضاته في كل ما قاموا به ؛ وقد قام كل منهم بإضافة رؤى جديدة على من سبقوه تساير تطور العصر وتقدم العلم ؛ وابتكر كل منهم مناهج جديدة رآها في عصره أكثر دقة وملاءمة لعصره ؛ ولكننا لم نسر على نهجهم ، بل عطلنا العقل وأوقفنا الفكر وأغلقنا باب النظر والاجتهاد اكتفاء بما وصلوا إليه في عصور بعيدة عن عصرنا وعلومه ومناهجه البحثية ورؤاه الفكرية ومتطلباته المجتمعية واتخذنا من آرائهم مرجعية ثابتة لا نتعداها رغم إقرارنا عقلا ونقلا أن كل فكر بشري خارج الوحي الإلهي قابل للنظر والنقد والتغيير ابتغاء تحقيق سعادة البشر ومصالحهم وتقدم المجتمع الإنساني ، في إطار يرضى الله ورسوله ولا يخرج أو يتصادم مع ثوابت العقيدة وفرائض العبادة ، وسمو السلوك ومكارم الأخلاق.
هيام فوزى محى الدين
كاتبة و صحفية وإعلامية مصرية