أوكرانيا بالعربية | ملف: المجاعة في أوكرانيا...تاريخ لن ينسى
كييف/أوكرانيا بالعربية/ قتلت المجاعة في أوكرانيا، بين عامي 1931 و1933، أكثر من 3 ملايين إنسان. وما تكشف عنه الوثائق هو أن المجاعة الأوكرانية لم تكن الوحيدة في الاتحاد السوفييتي في الثلث الأول من ثلاثينات القرن العشرين. فمجاعة كازاخستان، ومناطق الفولغا وسيبيريا الغربية، أودت بحياة حوالى 3 ملايين من السكان كذلك. وما تظهره الوثائق المحفوظة هو، في المرتبة الأولى، استعمال ستالين المجاعة أداة سياسية، وارتكابه جريمة جماهيرية في حق شعب معارض
وحرص الحكم السوفياتي زمناً طويلاً على إسدال الصمت على مقتل 6 ملايين جائع أو «مجوَّع
واليوم، ذكرى يقتصر إحياء هذه الذكرى الأليمة فقط في أوكرانيا، فيما تسكت روسيا بوتين سكوتاً مطبقاً عن مجاعات البلاد السوفياتية السابقة الأخرى، حرصاً على إظهار وجه غير معتم من الحقبة الستالينية.
ومنذ منتصف التسعينات، خطا تاريخ المجاعات السوفياتية في أوائل الثلاثينات خطى واسعة. وفحص الباحثون مصادر ووثائق على جانب كبير من الأهمية والخطورة، مثل قرارات المكتب السياسي (للحزب الشيوعي) السرية ومراسلات ستالين وأقرب مساعديه، فياتشيسلاف مولوتوف ولعازر كاغانوفيتش
فكانت هذه الوثائق مدخلاً لتتبّع تفاصيل القرار السياسي وسبل اتخاذه في الدوائر السوفياتية العليا، وكيف قادت القرارات إلى المجاعة، ثم إلى تفاقمها عمداً منذ خريف 1932، في أوكرانيا والكوبان بشمال القوقاز الملحق إدارياً بروسيا
وعلى خلاف المجاعات الأخرى والدورية في 1891 و1921– 1922 التي كانت تصيب مناطق من الإمبراطورية الروسية، لم تسبق مجاعات مطالع الثلاثينات كوارث مناخية، كالجفاف أو الفيضانات، فهي مجاعات من «صنع يد الإنسان»، كما يقول رائد دراسات المجاعات المؤرخ الأميركي، جايمس مايس، وثمرة مباشرة غير مبرمجة لسياسة مفرطة العنف، اتصف بها تجميع الأرياف بالإكراه. وكان هدف سياسة التجميع، أوائل الثلاثينات، مصادرة شطر كبير من المحاصيل من المزارعين الأوكرانيين يُستثمر في ما سمّي «التراكم الاشتراكي الأولي»، أي في تسريع التصنيع. والهدف الثاني هو إرساء مراقبة سياسية شديدة القبضة على الأرياف التي أقامت خارج «نظام قيم» النظام. والتجميع القسري كان، حرباً لا هوادة فيها على نظام إنتاج، ومدنية ريفية وفلاحية نسبها الحزب الشيوعي الحاكم إلى «التخلف» و «البدائية»، وتستر عليها بزعمه مكافحة سيطرة الملاكين («كولاك» بالروسية) والجشعين على الإنتاج الزراعي والفلاحين
وقد لقيت هذه السياسة مقاومة قوية لدى مباشرتها. وأحصى البوليس السياسي عام 1930 نحو 14 ألف تظاهرة وتمرد وهرج في أنحاء أوكرانيا. فاضطر ستالين إلى التراجع، وإلى إدانة سياسة المصادرة
ونجم عن تراجع ستالين ترك نصف المزارعين قسراً الكولخوزات (أو المزارع الجماعية) في غضون أشهر قليلة. فدبت الفوضى في نظام إنتاج وتوزيع ضعيف التماسك، لكن سلسلة الغرامات والرسوم المجحفة التي فُرِضت على من تركوا المزارع الجماعية الرسمية ردعت بعض هؤلاء، وأوهنت مقاومتهم. وقصرت تظاهرات (احتجاج) المزارعين على60 في المئة منها في أوكرانيا. وأواخر 1931، بعد سنتين على بدء التجميع، سلّم ثلثا المزارعين بالسياسة الجديدة، أو بما سموه «قنانة جديدة» آملين بانهيار النظام قريباً
فلجأ المزارعون المنتسبون إلى الكولخوزات أو العاملون بأجر في السوفخوزات (المجمعات الآلية) إلى «سلاح الضعفاء» (جايمس سكوت)، أي التراخي في العمل والإحجام عن الاعتناء بالماشية، والسطو خفية على السنابل أو حبات البطاطا، وإهمال الجرارات القليلة عن ضعف دراية وليس عن سوء قصد. ومبرر هذه الأعمال هو تعويض عجز الدولة عن تسديد أجور العاملين فوق ما هو تصميم على المقاومة
وأصابت الخسارة المزدوجة سعي النظام إلى تخزين الحبوب والماشية، وتموين المدن والجيش واقتطاع حصة للتصدير بواسطة المركز وإدارته شبكة الكولخوزات والسوفخوزات. وكانت أجهزة الدولة السوفياتية في النصف الثاني من العشرينات، تشتري بسعر السوق نحو 10 ملايين طن من الحنطة. فوسعها، في 1931، مصادرة 23 مليون طن مجاناً تقريباً، وتصدير 5 ملايين منها، على رغم تردي المحصول. واضطرت كولخوزات كثيرة إلى النزول عن شطر من بذارها في سبيل إنجاز خطة 1931 القسرية. وجَنَت موسكو 43 في المئة من محاصيل أوكرانيا، وهي نسبة كبيرة أفضت إلى تخريب الدورة الإنتاجية التي سبق للتجميع أن ألحق أضراراً قاسية بها
وتشهد التقارير الكثيرة التي كتبها المسؤولون المحليون في الأجهزة الحزبية البوليسية السياسية، وأبلغوها إلى موسكو وقياداتها وعلى رأسها ستالين، على تفاقم «المشكلات الغذائية» بكازاخستان وأوكرانيا والكوبان، ومناطق الفولغا وسيبيريا الغربية
وضربت المجاعة أول ما ضربت كازاخستان، فقضى 1.5 مليون من الرعاة وأسرهم ضحايا الانعطاف الستاليني في 1931- 1933، هم أكثر من ثلث السكان هناك
زحفت المجاعة على مناطق شهدت منذ 1930 لجوء مئات الآلاف من المزارعين الكولاك المنفيين إلى ناريم، في سيبيريا الغربية، والأورال، ومنطقة أرخانجيلسك، شمال روسيا الأوروبية. وأصاب الجوع مناطق زراعية غنية، صادرها الحزب بمحاصيلها، مثل حوض الفولغا الأوسط والأسفل، والكوبان وأوكرانيا. وأقلق السلطة اندلاع انتفاضات مجاعة وشغب في المراكز الصناعية: إيفانوفو على مسافة 300 كلم شرق موسكو، وبوريسوفا بروسيا البيضاء. وجُدِّد توزيع بطاقات التموين في المدن، والتي كانت أُلغيت أوائل العقد السابق، مقصد هجرة 10 ملايين من أهل الأرياف الهاربين من التجميع.
ارتأى الفريق الستاليني، في هذا الظرف، المضي في سياسة المصادرة. فأمر باقتطاع 29 مليون طن من الحنطة من محاصيل 1932. وقدرت هذه عمداً بـ90 مليوناً، على رغم توّقع نحو 70 (وبلغت 67 مليوناً). واقتطع فعلاً 22 مليوناً، حالت الفوضى دون زيادتها. واشتد ساعد المقاومة في أوكرانيا. واقترع معظم الحزبيين الشيوعيين، على خلاف التقليد، ضد الخطة الرسمية، ووصفوها بـ «اللاواقعية» محذّرين من أن مجاعة عظيمة تنجم عنها. ولم يثنِ هذا الرأي موفدي ستالين ومعاونيه الأقربين، مولوتوف وكاغانوفيتش عن «إقناع» الشيوعيين الأوكرانيين بالموافقة على الخطة المدمرة.
وتعاقبت فصول الكارثة: بلغت محاصيل الحصاد في الشهر الأول (تموز- يوليو 1932) عُشر الرقم المتوقع رسمياً، وتردت الحال في أيلول (سبتمبر) وتشرين الأول (أكتوبر)، ولم يعوض الحصاد في شمال القوقاز (28 في المئة) التردي الأوكراني، وتغنى المزارعون والفلاحون بإخفاء حصة من الحصاد وتهريبها من المصادرة. فقرر المكتب السياسي، في 22 تشرين الأول تفويض مولوتوف وكاغانوفيتش صلاحيات مطلقة تخولهما سحق «التخريب الكولاكي». فقرر المفوضان، بين أواخر تشرين الأول 1932 وأواخر شباط (فبراير) 1933، إلزام إدارة الكولخوزات التي لم تفِ تعهداتها باسترداد التقديمات العينية (حبوب البذار) من المزارعين. وهذا إجراء دونه حملات تفتيش بوليسية، تؤدي حتماً إلى تعاظم العنف وتفشيه
وقرر المفوضان كذلك حظر تموين الضواحي التي قصّرت عن تلبية تعهدات ألزمت بها. وترتب على القرار إخلاء المخازن من المنتجات والسلع المصنوعة والغذائية، وتعليق التجارة ورد التسليفات والقروض، الفردية والجماعية. وجزاء المخالفة غرامة تبلغ 15 ضعفاً قيمة الضريبة الشهرية. ومعنى ذلك مصادرة البقرة الباقية والاحتياط الأخير من الحبوب
وتجمع الشواهد على عنف المصادرات التي أوكلت إلى «ناشطين» متطوعين، رأوا في تطوعهم خشبة خلاصهم الوحيدة من الجوع. فسطوا على كل ما وقعت عليه أيديهم: الدجاج والأرانب والطحين والفاصوليا والقرنبيط المكدوس
وصدر عن «المحاكم» 50 ألف حكم بالسجن مدداً طويلة، و700 حكم بالإعدام، في تشرين الثاني (نوفمبر) وحده، و72 ألف حكم في الشهر التالي. وحكم القضاء العرفي نفسه بنفي سكان قرى «متمردة» بأكملها. وفي 29 كانون الأول (ديسمبر) صدر قرار بتسليم الكولخوزات المتخلفة عن التسديد، البذارَ الاحتياطي
واتبع ستالين هذا القرار بآخر، في 3 كانون الثاني (يناير) 1933، ساوى بين إخفاء غذاء من أي صنف وبين سرقة ملكية عامة. فهربت جماهير ريفية إلى المدن، للحصول على بطاقة تموين تقي الموت المحتوم
وعزا مسؤولو الأمن السياسي موت أهالي الأرياف إلى تحريض أعداء «البروليتاريا» وحزبها و «تنظيمهم المدبر». وأقر ستالين، في 22 كانون الثاني، التعليل الأمني، وأمر بالتصدي للهرب بالقوة، وتجريم الهاربين وسجنهم، وحظر بيع المزارعين تذاكر سفر
فقضى 12 في المئة من الأوكرانيين جوعاً، أي 15 ألفاً في اليوم، طيلة 8 أشهر
إعداد منال نحاس
مدير دراسات في معهد تاريخ الزمن الحاضر، عن «ليستوار» الفرنسية، 12/2013
المصدر: الحياة بتصرف