أوكرانيا بالعربية | أوكرانيا... أهي مصر أخرى؟... بقلم جوب هينينغ
كييف/أوكرانيا بالعربية/بعد مرور أكثر من أسبوع على رفض الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في قمة "الشراكة الشرقية" في فيلنيوس، ما زال المتظاهرون يتحدون حظر التظاهر في ساحة الاستقلال وسط كييف، وقد تضاعف عدد الحشود يوم الأحد ليتخطى مئات ألألوف، كذلك وجّهت رئيسة وزراء أوكرانيا السابقة يوليا تيموشينكو رسالة عبر ابنتها دعت فيها يانوكوفيتش إلى الاستقالة.
فضلاً عن مستقبل البلاد، تهدد الأوضاع الراهنة رؤية ما بعد الحرب الباردة عن مجتمع أوسع عبر الأطلسي، ولا تقتصر هذه المسألة على خلاف سياسي محلي أو ثنائي، بل تعكس مدى هشاشة استراتيجية أمنية موالية لأوروبا نشأت في مرحلة ما بعد الحرب الباردة؛ لذلك تحتاج إلى ردّ استراتيجي من المجتمع عبر الأطلسي.
في عام 1989، أدلى الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في ماينز بألمانيا بخطاب دقيق مدروس بعناية عن الفكرة الاستراتيجية "أوروبا الكاملة والحرة". حمل هذا الخطاب صدى تاريخيّا عميقاً لم يقف عند حدود الفئات العقائدية. تخطى هذا الخطاب فكرة الاحتواء وتناول مجازيّاً الدور المزدوج للمزارع والمواسم في مساعدة بذور الديمقراطية على النمو. فشكّل هذا الخطاب أساس السياسات الأميركية والأوروبية تجاه أوروبا الشرقية طوال الجزء الأكبر من العقدين التاليين.
تجلى هذا التفكك في الإجماع عبر الأطلسي بشأن أوروبا الشرقية بوضوح في قمة حلف شمال الأطلسي في بوخارست عام 2008، حين رفضت أوروبا دعم الرئيس الأميركي جورج بوش الابن لجورجيا، وقد أدت الحسابات الخاطئة من الطرفين الجورجي والروسي إلى حرب كان من الممكن تفاديها بسهولة.
لطالما سعى يانوكوفيتش إلى التوقيع على اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والانضمام في الوقت عينه إلى الاتحاد الجمركي الذي ترعاه روسيا، ولا تُعتبر هذه المناورة مفاجئة نظراً إلى موقع أوكرانيا الجغرافي وتركيبتها السكانية، لكن الاتحاد الأوروبي أصرّ أن على أوكرانيا أن تقبل بإحدى هاتين الأجندتين فقط. وفي وجه هذا الاختبار الصعب، لم يتخلَّ يانوكوفيتش فجأة عن خطط توقيع اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في فيلنيوس، بل اتضح قبل وقت طويل أنه لا ينوي توقيعه.
صحيح أن البعض ينتقدون يانوكوفيتش لأنه لم يبذل جهداً كافياً، إلا أن التقصير الواضح جاء من جهة الاتحاد الأوروبي، فما كان يانوكوفيتش يتصرف بمكر بل بعقلانية (مع أن سلوكه لا يخلو بالتأكيد من المكر إلى حد ما)، حين رفض رزمة مساعدة مالية غير ملائمة من الاتحاد الأوروبي بقيمة 800 مليون دولار. يُعتبر بناء هندسة أمنية مستقرة عملاً تنافسيّاً، ففي قانون دعم الحرية، استثمرت الولايات المتحدة الأميركية أكثر من 3 مليارات دولار وقدمتها كمساعدة لجمهورية جورجيا، بلد تساوي مساحته 1/9 من مساحة أوكرانيا، وخلال اجتماعات يانوكوفيتش مع الرئيس كسي جينبينغ في الصين أخيراً، فازت أوكرانيا بمشروع لتنمية المرفأ بقيمة 3 مليارات دولار. إذاً، تتطلب هذه اللعبة مبالغ ضخمة.
تواجه أوكرانيا اليوم خطر أن تطيح التظاهرات بحكومة يانوكوفيتش لتكتشف بعد ذلك أن كل مَن سيخلفه سيعاني العقبات والصعاب ذاتها، وقد يؤدي هذا الواقع إلى انعدام مطوّل للثقة بالديمقراطية ويولّد دولة أوكرانية أكثر ضعفاً يستطيع بوتين بكل سهولة السيطرة عليها.
تهدد خاتمة قمة فيلنيوس على أعلى المستويات بترك نقطة ضعف استراتيجية ومصدر عدم استقرار دائم (قد يستمران طويلاً بعد انتهاء عهد بوتين) على الحدود الغربية لأوراسيا في وقت تسعى فيه الولايات المتحدة للاعتماد على حلفاء مستقرين يشاركونها وجهات نظرها في تلك المنطقة كي تتمكن من زيادة تركيزها على المحيط الهادئ.
في المقابل، يُعتبر اقتراح أن الوسيلة الفضلى للمضي قدماً تقوم على تشكيل أوكرانيا حكومة مؤقتة غير عملي وغير مسؤول، فقد برهن يانوكوفيتش أنه لن يتخلى عن الحكم سلميّاً، كذلك لا يملك أي سياسي الشعبية الكافية ليحقق ذلك سياسيّاً، تماماً كما أظهر إخفاق التصويت لحجب الثقة.
سواء كانت هذه الاقتراحات متعمَّدة أو لا، تُعتبر في أوكرانيا دعماً لتغيير غير دستوري آخر في الحكومة، لكن هذه الرسالة خاطئة، فقد حظيت هذه المنطقة بما يكفي من الثورات الملوّنة وتحتاج إلى تركيز أكبر على عمليات حكم طبيعية، وإلا فستواجه خطر السير في الدرب ذاته الذي سبقتها إليه مصر، فتصبح بذلك أسيرة سلسلة من الثورات الشعبية التي تمنع أي قيادة من السعي بفاعلية لمعالجة مشاكل البلد الملحة.
إذا قررت الولايات المتحدة وأوروبا الرهان على أوكرانيا، فعلى المجتمع عبر الأطلسي أيضاً أن يعيد تنشيط أجندته الأمنية. فيجب ألا يبقى مَن يطمحون للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي في حالة انتظار لا نهاية لها، بل على هذا الحلف أن يساهم في تأمين إطار مستقر للنضوج الديمقراطي والاقتصادي في المنطقة.
أما إذا لم تقرر أوروبا والولايات المتحدة المراهنة على أوكرانيا، فيجب أن تنتقلا إلى لعبة أطول وتحرصا على التشديد على أن كل الأطراف معنية بها، فلا يخدم الغموض الاستراتيجي محاولة بناء قارة أوروبية كاملة وحرة.
المصدر: الجريدة