أوكرانيا بالعربية | لا مفر عن مواجهة الرأسمالية... بقلم هشام عبده
كييف/أوكرانيا بالعربية/بدأت الانتفاضات الشعبية هنا وهناك، بدأ المظلوم يقف في وجه الظالم ،وقف السجين في وجه السجّان ،نهض الوحش النائم فترنحت الأنظمة ولكي تبقى الأنظمة نفسها بدأت الإمبريالية تضحي بالحكام ويوجه نحو حفظ الأنظمة باسم الديمقراطية .
إذا كانت الأنظمة العربية قد أدمنت التبعية الأمريكية وأخذت منها القدوة وباتت تصنع الفقر والخوف وترسخ فكرة التبعية أيضا في نفوس شعوبها، فإن الرأسمالية العالمية أضحت تصنع الفقر والأزمات التي يذهب ضحيتها فئات شعبية فقيرة وعمال وفلاحين ،ومهاجرون مهمشون وأقليات عرقية، تتحول بفعل استفحال الأزمة إلى فئات مغضوب عليها، وتصبح بمثابة وحش يهدد تجانس المجتمعات العربية والأوروبية .
النظام الرأسمالي هو المطبق في العالم الآن، وأنظمة الحكم في منطقتنا تطبقه، وما كانت الثورات إلا لأن الشعوب أحسّت ظلم الرأسمالية -وان كان بشكل غير مباشر- فهي خرجت تهتف "عيش حرية عدالة اجتماعية"، فلقد جوعت الشعوب وأذلتها، وكثرت البطالة ،ونهبت الثروات ولا أدل على فسادها من أن أصحابها الذين يطبقونها وبعد الأزمة المالية العالمية وعلى رأسهم رئيس وزراء بريطانيا ورئيس فرنسا هم الذين يطالبون باستبدال النظام الرأسمالي بنظام أكثر عدلاً للبشرية جمعاء .
كبر مظالم الفقراء في النظام الرأسمالي، هو وجود النظام الطبقي المتعدد، وإحتماء الطبقة الرأسمالية تحت مظلة القانون الذي يسمح للرأسمالي بتجميع الثروات ،ويحرم الفقير من إستلام قوت يومه حتى لو كان طفلاً قاصراً ،أو امرأة ضعيفة ،أو شيخاً هرماً، أو شاباً معاقاً،فعندما يسرق الأغنياء الفقراء، يسمون ذلك أعمالًا، وعندما يدافع الفقراء عن أنفسهم و يطالبون بحقوقهم، يسمون ذلك حقدا وعنفا، وليس لدينا أدنى شك بأن المساواة بين الأغنياء والفقراء، لا تتحقق إلا بوجود نظام اجتماعي نزيه يحكم بين الناس بالعدل والقسط والمساواة .
حقيقة الرأسمالية واستعبادها للشعوب :
الحرية التي افترضها أنصار المذهب الرأسمالي ليست مطلقة ،إذاً لا تتمتع بها سوى فئة محدودة من الأفراد هي فئة ملاك عناصر الإنتاج ،فحرية العمل لا يتمتع بها العامل الأجير الذي غالبًا ما يعجز عن إيجاد العمل الذي يرغب فيه ،وذلك بسبب اشتداد المنافسة بين الطبقة المعاملة التي تكوِّن غالبية الشعب مما يجبرهم على قبول أجور منخفضة حتى لا يتعرضوا للبطالة وتتشرد أسرهم .
ولما كانت الرأسمالية تقوم على الحريات الأربع، ومنها حرية التملك، فقد قام أصحاب رؤوس الأموال يجمعون الثروة بكل ما أوتوا من قوة ومكر ودهاء، فلا يبالون بإستغلال جهود العمال، وانتقاص حقوقهم ،وتسخير مواهبهم ،فانتشر الفقر وساد إستغلال الإنسان للإنسان ،وتدخل رجال الأعمال في كل شئ وضاعت هيبة الدولة، وكانت المرأة أول ضحايا هذا النظام، فقامت نتيجة هذا الاستغلال حركات كثيرة تطالب بإنصاف المظلومين من هذه الرأسمالية المتوحشة، فظهرت الحركات العمالية والحركات النسائية ،وكانت المظاهرات التي ينظمها الرجال والنساء غالبا ما تقمع بالقوة، فيسقط القتلى والجرحى، فكان يوم الأول من يونيو عيداً للعمال، تخليدا لمن قتل منهم، كما كان يوم الثامن من مارس يوما للمرأة تمجيداً لنضال النساء وتضحياتهن لنيل حقوقهن ،ومساواة أجورهن بأجور الرجال الذين يقومون بنفس عملهن ،نهايك عن سوء توزيع الدخل وتمركز الثروة في يد قلة قليلة، ووجود الأزمات الدورية والتقلبات الاقتصادية .
استفادت الرأسمالية الجديدة من السقوط العنيف للإشتراكية ،وقدم هذا السقوط السريع كإنجاز عقلاني للبشرية، حتى أن الفكر النقدي الذي يعمل في الحاضر، ويعتبر نفسه في مجابهة مع الواقع ما انفك يتحدث في العقد الأخير عن كوارث النيوليبرالية، والعولمة الرأسمالية المتوحشة، وعن هيمنة الانفتاح الرأسمالي، والسوق ،وتخريب الروابط الاجتماعية، وزيادة فجوة اللامساواة، والإفقار المطلق .
وحسب شهادة كبار النقاد في العالم، والخبراء، فإن السبب الرئيسي لزيارة اللامساواة والإفقار المطلق في العالم منذ عقدين من الزمن، هو العولمة الليبرالية المفروضة من قبل الولايات المتحدة الأميركية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية .
و الإنهيار الاقتصادي الحالي ليس حادثاً طارئاً، ولا معزولاً، أو خاصاً بمجتمعات معينة دون سواها، معناه الأول هو أنه انهيار لنظام عيش معين، كان مفروضاً على الشعوب، بإرادة أقويائها، وبضعف غالبيتها الغافلة و المستكينة، وحتى الممانعة منها ،وأنا شخصيا أتعجب من هؤلاء الذين يرفضون المظاهرات العمالية الفئوية وينظرون إليها على إنها شئ يعطل عجلة الإنتاج وأقول لهم أي عجلة إنتاج هذه التي تتحدثون عنها ،هؤلاء المحتجين لم يفعلوا شيئا غريبا بل فعلوا هذا من قبل كثيرا في العهد البائد و رصيف مجلس الشعب اكبر شاهد عليهم ،وكانت النتائج دائما تأتى في غير صالحهم وعندما قامت تلك الانتفاضة ،استبشر هؤلاء المظلومين خيراً وأنه قد حان الوقت لتحتضن الدولة من جديد أبناءها ،وأنه سيكون هناك تحقيق حقيقي للعدالة الاجتماعية ،إلا إنهم مع الوقت شعروا وكأن شيئا لم يكن فاضطروا لفعل هذا مجددا لكي يعلموا هؤلاء الصم القائمين على شئون بلادنا بحالهم، وأنهم مازالوا يعملوا من أجل قلة قليلة وهم الرأسماليين ليس من اجل هؤلاء المظلومين العارقة جباههم أمام لهب الحياة ،وأنا شخصيا مع اى حركة أو مظاهرة عمالية أو قلة مقهورة شاعرة بالظلم إلى أن يحصلوا على حقوقهم المشروعة .
نجاح الثورات والانقضاض على النظام الظالم لا يتحقق، ما لم يسيطر فيه الأغلبية المستضعفة على منابع القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتعليمية والقضائية والصحية ،وهذا حق الفقير لا أكثر ولا اقل ،ولكنه أمر يحتاج إلى تخطيط ومتابعة ووعي لم يتوفر لدى مستضعفي وفقراء العالم الرأسمالي إلى اليوم للأسف .
وإذا كانت الثورات وما يتبعها من تغيير اجتماعي قضية استثنائية ،فان النظام الرأسمالي يحاول إقناع المستضعفين في المجتمعات الرأسمالية بالخصوص، بقبول حالة انعدام العدالة على أساس أنها مسألة اجتماعية طبيعية وأنها قضية مشروعة، بمشاركة بعض رجال الدين الفاسدين المستفيدين من تلك الطبقة ليقنعوا الفقراء والكادحين بأن هذه سنة الله على أرضه وأن ما هم فيه أمر واقع .
النظام الرأسمالي الملكي الأوروبي يشجع الفقراء على الهتاف بالحياة للملك، والنظام الرأسمالي الأمريكي يشجع الفقراء بالهتاف للحلم الأمريكي الذي يعيش فيه أصحاب رأس المال وأعضاء الكونجرس والحكومة واقعاً ،وهكذا الأمر في مصر تتهافت الفقراء وتتعلق آمالهم بدخول احد رجال الأعمال المجلس التشريعي ويتصارعون من اجل الوصول إليه لتقديم حاجاتهم التي هي في الأصل مشروعة ولابد من طلبها بأي شكلا كان، ولا داعي لواسطة رجل الأعمال الذي هو في الأصل شريك في سرقتهم وتدهور حالهم هذا .
ومصطلح "الرأسمالية" لا تختصر هذا النظام، وإن كانت أفضل ترميز إجرائي عنه، هكذا يمكن توصيفه إلى ما قبل الانهيار الراهن، فيبدو أن الرأسمالية كمفهوم أمست عاجزة حقاً عن تغطية مسماها، إنها مجرد تعبير يمت إلى متن الاصطلاح الاقتصادي بينما الكارثة الراهنة لها قدرة على تشميل الحالة الحضارية البائسة للبلاد، وصفة البؤس هنا لا تخص مقولة الفقر وتوابعه بل هي عنوان العجز المتمادي للعصر في تنشئة سلطة للفهم تقابلها سلطة فعالة للتدبُّر؛ هذا العجز تصدت له دائماً أيديولوجيات التغيير لكن دون الإحاطة بكوارثه، وهنا يأتي التفسير الأزلي للأسف الذي يقسم كل حاضر للعالم إلى مملكة للأقوياء وأخرى للضعفاء .
إن العالم برمته مرشح للانفجار، بفعل أزمة الرأسمالية المستغلة التي تعمل من أجل قلة قليلة والتي لا تقبل ببروز نظام عادل يستفيد منه الجميع، ويقضي على الفروق الاجتماعية وعلى العنصرية التي يعاني منها الفقراء والأقليات في الغرب، والتي تسعى لفرض ذاتها، وإذا كان مطلب المواطن العربي هو إسقاط النظام برمته، فإن المواطن الكادح والمواطن الأسود وغيره في ضواحي لندن وباريس، مطلبه هو إسقاط النظام الرأسمالي وما يحدث الآن في العالم خير شاهد ودليل .
إن الربيع الديمقراطي لن يكون عربيا فقط، سيكون كونياً نتيجة جشع الرأسمالية الامريكية ، وانحسار دور الدولة الأمة في العالم العربي، والدولة الاجتماعية الديمقراطية في الغرب .
هشام عبده
كاتب عربي مصري
المصدر: أوكرانيا بالعربية