أوكرانيا بالعربية | الدولة الليبية تنهار.. والميليشيات تتغول.. والهوية الوطنية تتآكل.. والقادم اسوأ!... بقلم عبد الباري عطوان
كييف/أوكرانيا بالعربية/الكتابة عن ليبيا هذه الايام من اكثر الامور صعوبة ومشقة خاصة بالنسبة الى شخص مثلي وقف منذ الدقيقة الاولى لتدخل حلف الناتو عسكريا في شؤون هذا البلد ورفض ان يكون وسط السرب الذي كان يرقص طربا لمثل هذا التدخل ويضم جيشا من المفكرين والمحللين العسكريين ومدعوما بمحطات تلفزة عملاقة عربية وغربية، في واحدة من اكبر عمليات التضليل الاعلامي والسياسي في تاريخ المنطقة.
ليت الامر يتوقف عند اكوام القمامة، او شح الماء، وانهيار الخدمات الاساسية، فهذه امور يمكن تحملها بالمقارنه فما جرى ويجري حاليا من جرائم ترتكبها الميليشيات المسلحة وبلطجيتها، وتفكك البلاد جغرافيا وديمغرافيا، وارتفاع وتيرة القتل وسفك دماء الابرياء في وضح النهار، الامر الذي حول العاصمة الى مأتم كبير.
يوم الجمعة الماضي افاق اهل طرابلس على مجزرة مروعة راح ضحيتها ما يقرب من خمسين شخصا، واصابة ما يقرب من 500 آخرين عندما فتحت كتائب مصراته نيران مدافعها المضادة للدروع على مجموعة من المتظاهرين طفح كيلهم من خروقاتها الامنية، واهاناتها المتكررة لاهالي منطقة غرغور، وذهبوا للتظاهر امام مقرها طلبا لمغادرتها المدينة، وكف شرها عن العباد.
كتائب مصراته لعبت دورا كبيرا في اطاحة نظام العقيد الليبي معمر القذافي وقدم اهل المدينة الالآف من الضحايا عندما هاجمتهم وحاصرتهم دباباته، وحظيت بدعم السلطات القطرية وما زالت، ويتباهى بعض ابنائها بأنهم هم الذين اعتقلوا الزعيم الليبي واعدموه ثم عرضوا جثته ممثلا بها في ثلاجه ومعتدى عليها، وهي جثه، بطريقة جنسية بشعة تحرمها كل الشرائع والقيم الاخلاقية ثم دفنت مع جثة ابنه ووزير دفاعه في مكان مجهول بعد تعفنها وانتشار رائحتها.
وما يرجح قوة ونفوذ كتائب درع ليبيا تحالفها مع اللجنة الامنية العليا التي تتصرف كقوات امن للعاصمة، وتقف في الخندق نفسه مع قوات درع ليبيا في مواجهة كتائب الزنتان، ولا ننسى في هذه العجالة ميليشيا الفيدرالية في الشرق التي انبثقت او اصبحت جيش "دويلة" "برقة" ومقرها بنغازي، وتسيطر حاليا على الآبار النفطية ومرافيء تصديرها الامر الذي قلص انتاج البلاد الى اقل من 600 الف برميل يوميا بالمقارنة مع 1.5 مليون برميل قبل "الثورة" وبعدها.
ولاء هذه الميليشيات لقادتها الميدانيين، ومدنها وقبائلها، وليست للدولة المركزية وحكومتها، الامر الذي ادى الى تآكل الهوية الوطنية الليبية، الجامعة الموحدة، تماما مثلما حدث في العراق ويحدث حاليا في سورية.
ومن المفارقة ان من ابرز القواسم المشتركة بين العراق وسورية وليبيا، الدول الثلاث شبه الفاشلة، وشهدت اثنتان منها تدخل الناتو بشكل مباشر (العراق وليبيا) وحلفاء الناتو بشكل غير مباشر (سورية) ان الحكومات المركزية ضعيفة اولا، وان الهوية الوطنية تتآكل بسرعة لمصلحة الهويات الطائفية والمناطقية، وان النفط يخضع لسلطة الميليشيات وليس الدولة، وتقوم ببيعه في السوق السوداء والاستفادة من عائداته.
الحكومة المركزية تقول ان هذه الفوضى وانهيار الامن وفشل بناء الدولة تعود كلها الى ظاهرة الميليشيات المسلحة وهذا صحيح، ولكنها تقوم في الوقت نفسه برصد اكثر من نصف ميزانية الدولة لتمويل هذا الداء وموطن الخلل ودفع رواتب عناصرها.
انها شجاعة تستحق التقدير للدكتور الفقيه، ولكل الليبيين الشرفاء الذين قالوا "لا" بصوت عال للميليشيات، والدول العربية الداعمة لها، والقوى الغربية التي ادى تدخلها الى تحويل البلد الى هذا الوضع المؤلم.
الشعب الليبي الطيب القنوع والمغرق في التواضع، الذي عشت شخصيا بين ظهرانيه ما يقرب من العام ونصف العام، يستحق حاضرا ومستقبلا افضل بكثير، فتعداده لا يزيد عن 5.5 مليون نسمة، وعوائده النفطية وحدها تصل الى حوالي 70 مليار دولار، ويجلس على احتياطات نفطية هائلة، هذا غير الغاز والمعادن ومصادر الدخل الاخرى.
ليبيا تحتاج الى ثورة اخرى حقيقية، تعيد لها هويتها الوطنية ووحدتيها الجغرافية والبشرية، ثورة ضد الميليشيات والدول الداعمة لها، العربية قبل الاجنبية، وقبل كل شيء ضد هذه النخبة السياسية الفاسدة العاجزة.
عبد الباري عطوان
رئيس تحرير القدس العربي سابقا
رئيس تحرير ومؤسس صحيفة "راي اليوم" الالكترونية
محلل سياسي وكاتب عربي