أوكرانيا يالعربية | حظر المواقع الروسية في أوكرانيا ينقل الأزمة لمرحلة جديدة وخطيرة.. بقلم د. محمد فرج الله
كييف/أوكرانيا بالعربية/دخلت الأزمة الأوكرانية - الروسية في نفق مظلم يظل مجهولا ما ينتظر طرفي الأزمة عند الخروج منه ليصبح "الطلاق النهائي" بين الشعبين وشيكا، ولعل أهم ما يدعم ذلك فرض قيود على استخدام شبكات التواصل الاجتماعي الروسية في أوكرانيا، مما يعد مؤشرات جديدا وخطيرا في العلاقات المتوترة بين البلدين الجارتين، فلم يعد الصراع الذي أطلقته أزمة احتلال القرم، والحرب الانفصالية المشتعلة في شرق البلاد بدعم روسي، يقتصر على عقوبات متبادلة، بل تجاوز ذلك لبروز مساع لتدمير كل جسور التواصل بين شعبين عاشا معاً لقرون عدة.
نرى ويرى خبراء أن تطورات الأزمة الروسية – الأوكرانية بدأت تلقي ظلالاً قاتمة على مجالات التعايش المستقبلي ومهما كان شكل التسوية النهائية للأزمة الحالية بين البلدين، فإن خريطة أوكرانيا لن تعود أبداً كما كانت سابقاً، كما أن خريطة العلاقات السياسية والمجتمعية والثقافية بين الشعبين قد تعرضت لزلزال مدمر.
وأصبح واضحا أن التجربة الأوكرانية في هذا المجال تعد أكثر حدة ووضوحاً من المثل الجورجي، على رغم من أن النتائج تبدو متشابهة جزئياً بعد التدخل العسكري الروسي في جورجيا عام 2008 واقتطاع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الانفصاليتين منها، حيث أن صفحة تاريخية جديدة فتحت في العلاقات، غابت عنها مقومات الروابط التي تراكمت على مدى قرون وحلّت مكانها علاقة حذرة تقوم على "ضرورات الجوار" وإن كانت أقرب الى العدائية من أن تكون علاقات حسن جوار.
وهنا نقف امام تساؤلات كيف تطور الوضع الروسي - الأوكراني لهذا الحد؟ وكيف برزت بهذه البساطة هشاشة الروابط التي جمعت شعوب عاشت معاً لقرون؟ لدرجة وصلت الى مناقشة وقف تسيير القطارات بين البلدين وتقليص البعثات الدبلوماسية والحديث عن فرض تأشيرات على مواطني البلدين.
سؤال يطرح بينما ضجيج المعارك ونتائجها على الأرض يبدوان أعلى من أصواتهم، وللاجابة على شق "علاقتة القرون" فان علاقة الشعبين في دولة واحدة لم تكن دوما ودية ولم تكن دوما في اتحاد طوعي، بل عملت روسيا القيصرية على أخضاع اجزاء كبيرة من أوكرانيا لها بقوة السلاح تارة والخداع السياسي تارة أخرى، في حين بقي جزء أخر تحت حكم الامبراطورية المجرية والرومانية والحكم البولندي.
وبعد انهيار الامبرطورية الروسية كررت روسيا الخطأ ذاته في اجبار أوكرانيا على عضوية الاتحاد السوفييتي الوليد، ومن يشكك في ذلك فليقرأ تاريخ أوروبا الشرقية بين عامي 1919 و 1921 فسيري كيف اغرق الجيش الأمر عدة أقاليم أوكرانية بدماء المدافعين عنها، ما ادى الى هدم الجمهورية الأوكرانية الشعبية بعد اقامتها عام 1918.
وللعودة الى الواقع الحديث نستذكر العبارة الصارخة التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذات يوم "انهيار الاتحاد السوفييتي كان أكبر كارثة إنسانية في القرن العشرين" و اليوم تبدو بعض ملامحها المدمرة على روسيا اولا وبعض جيرانها لاحقا، حيث انها لم تحمل رسائل سياسية الى الغرب، بقدر ما عكست واقعاً لروسيا التي بدات بسياسات جديدة رامية الى صنع بوتقة عصرية تجمع تلك الجمهوريات تحت مظلة واحدة "رابطة الدول المستقلة" والتي بدات بالفشل والانهيار مثل سابقتها.
حرب إلكترونية
حمل قرار فرض لائحة عقوبات أوكرانية جديدة على الشركات الروسية تطوراً جديدا للأزمة ولم يكن مفاجئا، فقد هاجمت موسوكو كييف في لحظة ضعفها مستغلة انغماسها في الثورة والفساد وغياب القرار الحاسم، لكن أوكرانيا عملت على التقاط انفاسها، لترد الضربة ببدء كييف بقطع أواصر التواصل الاجتماعي مع الروس، بعدما اشتملت العقوبات السابقة على البعدين السياسي والاقتصادي فقط. واشتملت لائحة العقوبات على 468 شركة ومؤسسة روسية، أبرزها مؤسسات إلكترونية كبرى مثل محرك البحث «يانديكس» وشبكة «ميل رو» ومنصات التواصل الاجتماعي الرئيسة في روسيا مثل «فكونتاكتي» و«ادوناكلاسنيكي»، وهما يمثلان النسخة الروسية لعملاق التواصل عالمياً «فايسبوك».
وفي الوقت الذي تسجل المواقع الروسية خسائرها ، تسجل مواقع التواصل الاجتماعية العالمية وعلى رأسها "فيسبوك" مكاسبها، فقد ارتفعت عدد زيارات فيس بوك في أوكرانيا في الايام الاخيرة الى نسبة 30 % مما كانت عليه سابقا اضافة ال مواقع "تويتر" و بريد "جي ميل".
واستخدمت هذه الشبكات في شكل أساسي في أوكرانيا مع غياب البديل الوطني، بينما استخدمتها روسيا كوسيلة تواصل أساسية في ظروف الحرب والحملات الإعلامية والتعبئة العدائية المتواصلة. والملاحظ، أن استخدامات الشبكات الروسية لم تقتصر سابقاً على الناطقين باللغة الروسية في مناطق شرق أوكرانيا، بل كانت واسعة الانتشار حتى في المناطق المعروفة بسيطرة مشاعر العداء للروس فيها، مثل مدن أقصى الغرب الأوكراني.
وفي إطار «حرب إلكترونية» دخلت على خط المواجهة بين الطرفين، أطلقت الشركات الروسية برامج مجانية واسعة النطاق لتسهيل «تجاوز الحظر» المفروض في أوكرانيا بينما تعهدت كييف بمواجهة الخروقات. وكان سبقها مباشرة إعلان كييف أن موسكو تستخدم وسائل إلكترونية لزعزعة الأوضاع الداخلية، إضافة الى اتهامات لا تختلف في جوهرها عن الاتهامات الغربية لروسيا بممارسة «قرصنة» إلكترونية هدفها التجسس أحياناً، أو ممارسة نفوذ وتأثير في التطورات الداخلية في البلاد.
و جائت "الحرب الإلكترونية" التي تستهدف التواصل المباشر بين مواطني البلدين بعد الحرب الاقتصادية التي تمثلت في سلسلة من لوائح العقوبات والعقوبات المقابلة التي اتخذها البلدان.
أما روسيا فبدل ان تعيد النظر في سياسات مع جيرانها فقد كتفت بتكرار العبارة الرسمية حرفياً للموقف الروسي الذي أعلنه الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن كل التطورات الأخيرة تدل على أن سياسة كييف «باتت مصبوغة بطابع معاداة روسيا»، وهي العبارة نفسها منذ بداية الأزمة في 2014، وكرره الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو أخيراً، عندما قال أن «كل القيود المفروضة من الجانب الأوكراني يمكن رفعها فقط في حال تراجعت روسيا عن عدوانها السافر على بلادنا».
الحرب الثقافية وفرز التاريخ المشترك
لم تعد المواجهة تقتصر على القطاعات الاقتصادية والعناصر التي تفعل التواصل بين الشعبين، بل امتدت الى رموز التاريخ في فترات جمعت الأوكرانيين مع الروس، وفي إطار "الطلاق النهائي" أعلنت كييف أخيراً، هدم آخر تمثال لمؤسس الدولة السوفياتية فلاديمير لينين ليؤكد تصميم الأوكرانيين على إنجاز برنامج "تآثار الشيوعية في البلاد، الذي تم إطلاقه عام 2015، أي بعد مرور عام واحد على بدء المواجهة مع روسيا.
ونص البرنامج الذي أقر كقانون ملزم على وضع الشيوعية والنازية في كفة واحدة من خلال تأكيد "إدانة الشيوعية والوطنية الاشتراكية (النازية) والأنظمة الشمولية وحظر الدعاية لرموزها" ودمرت سلطات أوكرانيا خلال عامين بعد تبني القانون، نحو 1500 نصب تذكاري مرتبط بالعهد السوفياتي حيث أن تماثيل لينين كانت منتشرة في الساحات في كل مدن الاتحاد المنهار.
المستقب الأوروبي
ان كل ما سبق يمكن ان نقرأه في التصريح الصريح للرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو، عندما ابرمت اتفاقية اعفاء مواطني أوكرانيا من تأشيرة الاتحاد الأوروبي، حيث قال "ان أوكرانيا قد ودعت الامبريالية الروسية السوفييتية للأبد وعادت الى الأسرة الأوروبية" فقد جسد بوروشينكو في ذلك حلم الأوكرانيون في ثورة الميدان.
ويظل السؤال هل سيجني الأوكرانيون مكاسب العودة للأسرة الأوروبية ويجدون بها ضالتهم؟ أم سيصابون بعد حين بخيبة أمل ؟ على كل هذا ما ستجيبه الايام والسنين القادمة، ولكننا نجزم اليوم بأن روسيا قد خسرت ساحة من ساحات تأثيرها الجيوسياسي في صالح القوى الغربية.
د. محمد فرج الله
رئيس تحرير أوكرانيا بالعربية
كاتب ومحلل سياسي بالشأن الأوكراني والشرق أوروبي
المصدر: أوكرانيا بالعربية