أوكرانيا بالعربية| مـواقـع الـتـواصـل الإجـتـمـاعي أسـطـح بلا أعـمـاق... بـقـلـم حـســـن زايـــــــد
كييف/ أوكرانيا بالعربية/مواقع التواصل الإجتماعي المعروفة علي الشبكة العنكبوتية ، من مستحدثات العصرالراهن ، ولا يتعدي عمرها في حياتنا سوي سنوات قليلة ، فقد ظهرت في مصر في تسعينيات القرن العشرين . وقيل أنها قد سهلت التواصل بين البشر، وحولت الكرة الأرضية إلي قرية صغيرة ، يتواصل أهلها دون حواجز زمانية أو مكانية .
ربما كل ما يُقال عن تلك الطفرة التكنولوجية الهائلة صحيحاً ، شأنها في ذلك شأن كل شيء أضافته التكنولوجيا للبشر. ومع ذلك فإن لي علي تلك المواقع ملاحظتين ، قد يختلف أو يتفق معي الكثير حولهما . الملاحظة الأولي وهي تتعلق بكونها ليست مواقع للتواصل بقدر ما هي مواقع للتفسخ الإجتماعي . الملاحظة الثانية وهي تتعلق بكون علاقات مواقع التواصل الإجتماعي أسطح بلا أعماق ، وصنعت بديلا متوهماً للعلاقات الإنسانية . أما عن الملاحظة الأولي ، فقد حققتها من خلال أمرين : الأمر الأول : القضاء علي النظام الأسري . الأمر الثاني : تجميع الإتجاهات المتشابهة ، وجعل الإتجاهات الإجتماعية في جزر منعزلة . أما عن الأمر الأول والمتعلق بالقضاء علي النظام الأسري . فقد ساهمت هذه المواقع في عزل أفراد الأسرة عن بعضهم البعض ، وجعلت لكل فرد فيها عالمه الخاص ، الذي يشبع حاجاته ، ويحدد احتياجاته ، ويحقق له الإشباع النفسي والإجتماعي ، ويحدد له منظومة قيمه التي تحكمه .
وهذه الأمور تمثل بديلاً متوهماً للنظام الأسري ، لأن كل ما يتحقق من خلالها افتراضياً لا نصيب له علي أرض الواقع . فقد أذهبت هذه المواقع الإحتياج للأب والأم ، والأخ والأخت ، والأقارب ، والأصدقاء ، الذين هم من لحم ودم ، وعاطفة ، ومشاعر ، وأحاسيس ، وأفكار . وجعلت بينهم وبين بعضهم سداً منيعاً ، وحجراً محجوراً . وأحلت محلهم بدائل إفتراضية تمتليء بها الرؤوس . في الأولي لا تنقطع العلائق إلا بالموت ، وإن قطعت اقتطعت معها جزءاً من النفس . أما في الثانية فتنقطع العلائق وتعود وتموت بضغطة زرعلي لوحة المفاتيح . أما عن الأمر الثاني المتعلق بتجميع الإتجاهات المتشابهة في مجموعات ، كل مجموعة منعزلة عن الأخري ، فذلك يتم علي نحو آلي ، من خلال دراسة وتحليل شخصية المشترك ، والتعرف علي اتجاهاته من خلال تحليل البيانات التي يسجلها ، والإختيارات ، والتعليقات ، واختيار الأصدقاء .
ثم يجري توجيه المشترك ـ دون أن يعي ذلك أو يدركه ـ إلي المتشابه معه في ذات التوجهات ، حتي أنه يبدو للمشترك أن الموجودين علي المواقع لهم نفس التوجهات والإهتمامات . وهكذا نجد المجتمع يحمل اتجاهات في حقيقتها متناقضة متناحرة متحاربة ، مع تصور كل طرف أنه يحمل بذور التوجه العام للمجتمع ، وهذا يفضي في محصلته إلي حالة من حالات التفسخ الإجتماعي والنفسي ، ويخلق نوع من التناقضات المجتمعية التي تشيع طاقة سلبية في المجتمع . أما الملاحظة الثانية وهي تلك المتعلقة بكون علاقات مواقع التواصل الإجتماعي أسطح بلا أعماق ، صنعت بديلاً متوهماً للعلاقات الإنسانية . فالعلاقات الإنسانية في الحقيقة كائنات حية تمشي علي الأرض ، تصاحب الإنسان ، وتتعايش معه ، فيها دفء الحياة ، وحركتها ، وتدفقها . علاقات لها أبعاد وأعماق لا تقاس بالمقاييس المتعارف عليها ، ولا توزن بموازين البشر ، ولها لغة خاصة غير تلك اللغة المنطوقة أو المكتوبة ، ولها هواءها الخاص الذي تتنفسه ، وغذائها الخاص الذي تتقوت به وتتغذي عليه . أن يتم اختزال كل هذا في أزرار لوحة المفاتيح ، وفي شاشة فضية تعكس حروفاً ، أو صوراً ، أو فيديوهات ، أو ميكرفوناً ينقل صوتاً من حيث لا ندري ، فلا شك أنه بديل بارد ، ليس له أبعاد ، وليس له أعماق . مجرد أسطح عاكسة . صحيح أنه يمكن للمرء أن يعيش كل التصورات السابقة ، ولكن في عالم الإفتراض ليس أكثر ، ويبقي كما هو وحيداً في غرفة مغلقة أو مفتوحة ، قابعاً فوق كرسي ، خلف مكتب خشبي ، يتعامل مع آلة ، إذا ضغط علي زر الإغلاق تنغلق ، وتنغلق معها هذه الحياة .
فهل يصح القول بأنها حياة تصلح بديلاً للحياة . بالقطع لا . وفي النهاية تبقي أسطح بلا أعماق . دعك من القول أن هذه المواقع تمثل جاسوس العصر الإختياري المجاني ، فقد يتفق معك البعض في ذلك ، وقد يختلف . ولكن ما لا يمكن الإختلاف حوله أنها لص العصر الذي سرق الإنسان من حياته ، وألقي به في حياة افتراضية متوهمة ، بلا طعم ، ولا رائحة . أنا أفهم أن هناك علاقات أكثر حيوية ودفئاً من الحياة الواقعية . بل وربما تكون الحياة الواقعية هي البديل الإفتراضي لها . كل ذلك أتفهمه ، وأعيه ، وأدركه ، وأقدره ، وأثمنه ، ولكنه يبقي في إطار الإستثناء من القاعدة ، والإستثناء يؤكد القاعدة ولا ينفيها ، ولا يمكن القياس عليه بحال من الأحوال . ويبقي كلامي في النهاية وجهة نظر ، قد تحتمل الصواب ، وقد تحتمل الخطأ ، ويصعب قبولها بالكلية ، أو رفضها بالكلية . ولكنها حالة جديرة بالتأمل . أليس كذلك؟
حــســــن زايـــــــــد
كاتب مصري ومدير عام
المصدر: أوكرانيا بالعربية