أوكرانيا بالعربية | أزمــة الـحــداثـة .. وازدهار الــرجـعـيـة... بقلم هشام عبده
كيف/أوكرانيا بالعربية/العقلانية ،الحداثة، التنوير...الخ ،كلمات وجدها ضروري، وقد أصبح عالمنا العربي المعاصر، عالماً يسوده الظلام الفكري والضباب الثقافي، عالم يكاد يخلو من وجود الفلاسفة، وبحيث أصبح أغلب المفكرون العرب أصحاب توكيلات فكرية مهتمين باستهلاك منجزات الحضارات الأوروبية، دون أن يكون للعرب إسهام في المشاركة فيها وإبداع أقل القليل منها، مكتفين بالوقوف على التراث والبقاء على الأطلال ،والاستسلام أمام تيارات ظلامية رجعية صارت تأكل في جسد الأمة كالنار في الهشيم ،إلى أن أصبح الخوف يسيطر على كثير من أن يصبح امتلاكها مقاليد الحكم أمر واقع قريب .
الحداثة من الناحية الأيديولوجية تجاوز وقطيعة مع القديم دون أن ترتبط صفة القدم بالزمن فقط ولهذا فهي ليست قطيعة مطلقة مع الماضي فقد تحتفظ بالجوانب التي تراها منسجمة معها ،الجوانب المضيئة منه وما يمثل عناصر حياة فهي استمرار له في هذه الجوانب، فأوربا عندما تجاوزت الماضي أبقت على العوامل الايجابية فيه وطورتها لاسيما في الفلسفة والقانون والطب ؛ ومن الناحية التاريخية فإن الحداثة تحولات مهمة مر بها العالم الغربي منذ القرن الخامس عشر متعددة الأبعاد تمتد لتشمل الحداثة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والتقنية، وإن أبرز ما تميزت به الحداثة في الغرب تمثل ببروز نزعة عقلانية صارمة في مجال المعرفة والعمل فقد أصبح العقل سيدا وموجها للحياة والفكر .
ان العقلانية التي احتفت بها الحداثة في أوروبا منذ بزوغ عصر النهضة هي العقلانية الوضعية التي مصدرها العقل الإنساني والمرتبطة بالحياة والواقع لأن الحداثة سعت إلى السيطرة على الطبيعة فلا ينبغي للعقل الانصراف عن الواقع والإرتماء في أحضان الأساطير والخرافات ؛ومن مظاهر هذه النزعة العقلانية إعطاء العقل أولوية على العواطف والانفعالات والانصراف عن الخرافات والأوهام والميثولوجيا، و مما تميزت به الحداثة والذي هو من أبعاد النزعة العقلانية ما يسمى"التاريخانية" أي إرجاع الأحداث إلى مسبباتها التاريخية الواقعية لا إلى عوامل تعلو على الواقع وقدرات العقل الإنساني ..ومن مظاهر هذه العقلانية :"الابتعاد عن التفسيرات والأحكام المطلقة في الفلسفة وفي غيرها لأن فكر الحداثة هو فكر الوضعية والنسبية والفردية، ومن هنا تميزت الحداثة ببروز النزعة الإنسانية التي تعطي الإنسان قيمة سيادية ومركزية في العالم والدعوة إلى القيم الإنسانية الرفيعة التي تسعى إلى تحريره وتكفل له الكرامة والحياة العزيزة كالعدالة والمساواة والمواطنة وكل الحقوق الفردية، وهذه القيم الأخلاقية مصدرها العقل الإنساني ،إذ نظر إلى العقل بأنه مصدر المعرفة ومنها المعرفة الأخلاقية فالعقل هو مصدر الأخلاق ،بالعقل يتعرف الإنسان على خالقه ،ويضع الإنسان مبادىء الأخلاق ، والعقل هو الذي يحارب الظلم والشر ويعرف الخير والفضيلة ويختارهما وهذا ما قرره سقراط منذ فجر التفكير الفلسفي فقد وضع قواعد المعرفة على أساس العقل ورد أصولها إليه لأن الناس يلتقون على أحكامه بلا خلاف وهو قدر مشترك بينهم وإرث إنساني عام تلتقي على أحكامه البشرية ،وهو يؤكد أفكار العدالة والخير والفضيلة والتقدم والتحرر وهذه القيم وليدة العقل الذي يحارب الشر والظلم كما يحارب الأوهام والخرافات،فالإنسان العادل والفاضل هو الإنسان العاقل ،والإنسان الظالم وغير الفاضل هو الذي يجانب العقل.
إن اللاعقلانية طبعت مرحلة ما بعد الحداثة حتى أننا نجد هذه المرحلة متجانسة في خطابها إذا ما فحصنا هذا الخطاب بمستوياته كلها، وإذا كان الفكر السياسي الآن هو الذي اتسم باللاعقلانية ،فإنه لن يستطيع أن يسود وأن يقود مرحلة ما بعد الحداثة، إن الخطاب السياسي في هذه المرحلة طبع كل ألوان الخطاب الأخرى بطابعه الموحد حتى الخطاب الفكري والفلسفي ،وان هذا الخطاب السياسي هو الذي يتيح لأي خطاب وفي أي مجال بالظهور والبقاء بما ينسجم معه، إن الذي يؤكده تاريخ المجتمعات هو أن الفكر السياسي هو الذي يقود ويؤثر في مناحي الفكر الأخرى ،فعندما تسعى النخب السياسية المحترمة إلى التغيير فإنها تقود الفكر كما تقود الأحداث .
كما أشرت أن العقل له أهمية كبرى ولا يمكن الاستغناء عنه للحظة تحت اى مسمى أو هدف ،فبه يعي الإنسان وبه يحدد غاياته ويصل إليها ،فهو أداة المعرفة والتطور والتجاوز والنفي ولقد أعطت الحداثة السيادة للعقلانية ،وبهذا لم يعد لرجال الدين السطوة كما كان الحال في عهد الإقطاع الذي تسانده الكنيسة بل للاتجاه العلماني ؛و بمناسبة ذكر العلمانية هناك من يتكهرب عندما يسمع سيرة هذا المصطلح ،أحب ألخصها في نبذة بسيطة جداً تصمت تلك الأفواه الجاهلة ،وحتى تطمئن تلك القلوب الحائرة ما بين رفض السلطة الدينية وما بين إعمال العقل ..
العلمانية ليست بعبع أو شبح كما يدعى البعض ،وإنما هي بشكل عام لا أكثر ولا أقل من "طريقة تفكير" تؤسس لمجتمع يحترم وجود الإنسان وحريته ،ولا تقف في مواجهة الدين والمعتقدات ،فالكل حر فيما يعبد ويعتقد،تكفل لجميع طوائف المجتمع الحرية الدينية ،فهي ليست دين وعقيدة ،وربما نلاحظ أن الحريات الدينية لا تتحقق سوى في مجتمعات علمانية تمامًا ،فالعلمانية ترى في الدين رؤية نابعة من الفرد تمنحه يقينًا خاصًا وطمأنة ،لذا فهي لا تجد حرجًا في توظيفه في المجتمع وقبوله خضوعًا منها لاحترام حرية الإنسان ،الإنسان الذي تحرص العلمانية في التمركز حوله،وفى نفس الوقت ترحم المجتمع من تلك الصراعات والتناحرات العرقية والطائفية التي لا تسمن ولا تغنى من جوع ولا تزيد المجتمع إلا جهلا وتخلفاً ،وأنا شخصياً لا أؤمن ولم أجد بما يسمى بالدولة المدنية وربما أطلق بعض مفكرينا هذا المصطلح خوفاً من البوح بالدولة العلمانية ،فتعريفات الدولة لا تخرج عن دولة دينية أصولية بحتة يعتقد فيها الحاكم انه وكيل الله،وإما علمانية لها استقلالها الخاص ترفض التبعية وتضع العقل والتنوير في مقدمة أولويتها مؤمنة بأهميتهما،تقف مع جميع الأديان على مسافة متساوية دون تفرقة أو تفضيل احداً على غيره .
هناك حقيقة لا يجب إخفاءها وهى أن جميع الأديان السماوية وربما الوضعية أيضا ،اتفقت على رسالة واحدة وهى الحب والايخاء والسلام والمساواة، ومع ذلك نجد بعضاً مِن مََن يعتنقون هذه الأديان يتطرف ويقتل ويفجر ويرهب الآخر ويفسد في الأرض ،وهنا ليس من العدل أن نحمل فعل هذا الحقير إلى الدين أو باقي أتباعه ،وكذلك العلمانية هي مجرد فكر من اجتهاد الإنسان نتيجة بحثه وشغفه للتغير وتطلعه للأفضل وتكسير الأغلال والقيود البشرية المتمثلة في الاستبداد والقهر باسم الله ،فإذا رأينا من يدعى انه علماني ويسب الأديان أو يتجرأ على المعتقدات، فلا داعي أن نحمل فعله الوضيع هذا للفكر أو لباقي أتباعه ككل ،فربما هناك من يؤمن بهذا الفكر أكثر تديناً وإيمانا من غيره ..
هشام عبده
كاتب عربي مصري
المصدر: أوكرانيا بالعربية