أوكرانيا بالعربية | عـصر الرجال ورجال العـصر... بقلم حسن زايد
كييف/أوكرانيا بالعربية/تعلمنا صغاراً ، أن لكل عصر رجاله ، يولدون معه ، وينمون في كنفه ، ويتربون في رحابه ، ويعبرون عن توجهاته ، ويخطون له قواعد حاضره ، ويرسمون له سمات وملامح مستقبله . وما أن ينتهي هذا العصر، وينزوي ، حتي يبزغ فجر عصر جديد ، يجيء بقضه وقضيضه ، ويجيء برجاله الذين يحملون مشاعله ، مبشرين به بين البشر .
ويُقاس العصر برجاله ، فإذا أردت أن تعرف عصرًا فاعرف رجاله . ومن عصر الرجال ، ذلك العصر الذي عاش فيه أساطين الفكر والأدب . ويأتي في مقدمة هؤلاء الرجال العقاد رحمه الله ، رائداً من رواد الفكر في العصر الحديث . هذا الرجل العملاق عرضت عليه السفارة البريطانية في القاهرة مبلغاً من المال يسيل له اللعاب ، ويطيح بالرؤوس من بين أكتاف أصحابها إلي حيث يراد لها ، لقد عرضت عليه مبلغ خمسة آلاف جنيهاً ـ في هذا الزمان ـ كدفعة أولي ، بالإضافة إلي ألفي جنيهاً شهرياً ، في نظير ماذا ؟ .
في نظير أن يكف هجومه عن الوزارة المسئولة في ذلك الوقت ، وكذا الإحتلال البريطاني . أي أنه لم يُطلب منه الكتابة مدحاً فيهما ، أو قدحاً في غيرهما ، وإنما فقط الكف عن الكتابة قدحاً فيهما . والمثير أنهم هم الذين ذهبوا إليه يطلبون منه ذلك ، في زمن الإحتلال البريطاني لمصر ، ولم يذهب هو إليهم ، لا مطلوباً ولا مبادراً .
ولأنه العقاد ، ولأنه يملك قلماً ، لا للبيع ولا للإيجار ، وإنما يملك قلماً يملك مبادئاً ، رفض . ولم يكتف بالرفض ، فالرفض وحده لا يشفي غليلاً ، ولا يسترد كرامة خدشها العرض ، وإنما قام بطرد مبعوث السفارة البريطانية أو المندوب السامي البريطاني .
لقد لطم الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس علي قفاها ، وطردها شر طردة . قد يُقال أنه قد فعل ما فعل عن سعة في المال تغنيه عن التدني ، أو أن هناك مصادر أخري للإرتزاق تعف بها نفسه ، أو أن هناك مصادر سرية تتدفق عليه منها الأموال أنهاراً ، يسيل معها مداد قلمه قادحاً في الحكومة والإحتلال جميعاً .
وهو قول يرده واقع الحال الذي كان يعيشه العقاد . ذلك العملاق كان يبيع المجلات والصحف القديمة كي يقتات من ثمنها ، فلما نضب معينها ، دارت عيناه علي ما لديه من كتب ، وجعل يبيعها . فلما اشتد عليه الحال عاد قافلاً إلي بلدته أسوان كي يحفظ علي نفسه كرامته ، ويجد ما يتقوت به ، ويسد جوعته .
كان بإمكانه ركوب موجة ثورة يوليه 1952 م ، ويمتشق قلمه مدافعاً عنها ضد خصومها ، خاصة أنه كان من ألد أعداء النظام الملكي والإحتلال . إلا أنه آثر غير ذلك ، يتضح ذلك من تلك القصة التي رواها الأديب الرائع يوسف السباعي ، ونشرها بجريدة المصور في 13 / 11 / 1970م . أي بعد وفاة العقاد بسبع سنوات ، ووفاة عبد الناصر بشهر ونصف الشهر .
القصة كانت في المؤتمر الأول للأدباء العرب في القاهرة سنة 1958 م ، وقد طلبوا مقابلة جمال عبد الناصر ، فدعاهم إلي قصر القبة للقاءه . يقول السباعي : وقفت إلي جوار عبد الناصر قبل دخول الأدباء في حجرة مكتبه . فسألني : هل العقاد موجود ؟ . قلت : نعم . ابتسم عبد الناصر قائلاً : هذه أول مرة أراه فيها . ثم استطرد : كنت دائماً معجباً بالعقاد . " العقاد في معاركه السياسية ـ سامح كريم " . أعظم مفكري مصر في عصره ، لم يسع إلي زعيم الثورة المصرية ، سواء لرؤيته ، أو للحديث معه ، أو اكتساب مكانة لديه ، إلا في مناسبة عامة مع آخرين .
والزعيم هو الذي يسأل عليه ، ويحفل لوجوده . هكذا كان عصر الرجال . فما بالنا اليوم برجال العصر ؟ . في هذا الزمن توجد أقلام للبيع ، وأقلام للإيجار ، وأقلام للعمالة ، وأقلام في قوائم الإنتظار . كما توجد أدمغة محشوة بالقش ارتقت مرتقاً صعباً بالحديث في كل شيء ، وأي شيء ، بما في ذلك العلوم الإستراتيجية ، وعلوم المستقبليات . إنه زمن المسخ الذي ساده أشباه الرجال فكراً وأدباً وشعراً ولغة وعلماً . رجال لكل العصور . أقول ذلك ، وأنا أملك شجاعة الإعتراف بأنني صنيعة هذا العصر.
حسن زايد
كاتب مصري ومدير عام
المصدر: أوكرانيا بالعربية