أوكرانيا بالعربية | الــسيـسي واســتراتيجية الـتـوجه الإفـريقـي... بقلم حسن زايد
كييف/أوكرانيا بالعربية/لست من هواة ـ ولا محترفي ـ التطبيل والتزمير ، وتصدر مواكب النفاق لأحد . كما أنني لست من هواة ـ ولا محترفي ـ لطم الخدود ، وشق الجيوب ، وتصدر مواكب الجنائز لإهالة التراب علي أحد . كما أنني لست ممن يسعون إلي التهويل ، ولا من يسعون إلي التحقير والتهوين . أنا فقط ممن يرون الأشياء كما هي ، وأهوي نقلها كما أراها . ومن هنا لن أعزو للرئيس السيسي فضل اكتشاف الظهير الأفريقي لمصر ، ولا البعد الإستراتيجي للأمن القومي المصري ، الذي يمتد إلي أعماق هذه الأدغال والأحراش الأفريقية . فقد سبقه إلي هذه الرؤية حكام آخرين ، منذ أيام الفراعنة ، وقد كانت أول بعثة مصرية معروفة إلي إفريقيا ـ بلاد بنط ، الصومال حالياً ـ في عهد فرعون مصر ساحورع , ثم بعثة في عهد الفرعون جد كا رع ، ثم منتحوتب الثالث ، ثم الملكة حتشبسوت .
وقد كانت هذه البعثات تجارية ، وقد حفظت ذاكرة التاريخ حملات عسكرية في ذات الإتجاه . وفي العصر الحديث بعث محمد علي برحلات استكشافية لمنابع النيل الإستوائية ، وبالقطع فإن هذه الرحلات كانت تكتشف أيضاً الأقاليم التي يمر بها نهر النيل . ولا شك أن ثورة يوليه 1952 م ـ رغم ما تعرضت له من انتقادات في هذا المجال ـ قد أدركت البعد التاريخي والجغرافي للقارة الأفريقية ، وأهميتهما للبعد الإستراتيجي للأمن القومي المصري ، ومن هنا كان تحركها في مساعدة حركات التحرر الأفريقية ، والمساعدة في تخليص دولها من الإرث الإستعماري ، التي رزحت تحت نيره لعقود طويلة .
وقد كانت مصر صاحبة فكرة منظمة الوحدة الأفريقية ، التي تحولت فيما بعد إلي الإتحاد الأفريقي الحالي . وما حدث بعد العهد الناصري أن ولت مصر / السادات وجهها شطر أوروبا وأمريكا ، وقد دعمت مصر / مبارك هذا التوجه ، إلي حد أفضي في النهاية إلي تحلل الأفارقة من ارتباط الحب التاريخي لمصر، وشعورهم بحالة الإستعلاء والكبر التي أضحت مهيمنة علي سلوك مصر الرسمية تجاه بعدها الأفريقي . وفي أعقاب ثورة يناير 2011 م بدأت أثيوبيا في انشاء سد النهضة .
وبعيداً عن النواحي الفنية ـ التي بالقطع لا يمكننا الإفتاء بشأنها ، أو الإجتهاد فيها ـ أشيع في أحسن الفروض أن هذا السد سيؤثر علي حصة مصر من المياه تأثيراً بالغاً سينتهي بنا إلي تعطيش مصر ، خاصة في ظل السعي الإثيوبي إلي بناء مجموعة أخري من السدود . وقد عملت الميديا علي هذا المف علي نحو هستيري وصل إلي حد أننا بصدد سدود ستدفع بأثيوبيا إلي بيع المياه لمن يريد أو يرغب . وقد جاء الإجتماع التلفزيوني الكارثي الذي عقده مرسي مع ممثلي القوي السياسية ، علي الهواء مباشرة ، لوضع استراتيجية مواجهة مخاطر السد الأثيوبي ، ليهدم ما تبقي من جسور الثقة في حدها الأدني التي تسمح بإجراء حوار كأحد الخيارات المتاحة ، فضلاً عن الفرصة الذهبية التي قدمت لأثيوبيا ـ مجاناً ـ لتشويه صورة الموقف المصري ، بما يحول بين مصر وبين تشكيل تحالف دولي متعاطف معها علي هذا الصعيد ، يمثل سنداً وظهيراً لها حال اتخاذ أي إجراءات أو تدابير تحول دون وقوع أي أضرار محتملة لمصر جراء استكمال بناء هذا السد . وقد ذهب هذا الإجتماع بالملف إلي طريق مسدود ، وقد جري وضع ظهر مصر إلي الحائط .
وجاءت ثورة يونية لتجد مصر نفسها في مأزق ضرورة ترميم ما تم تصدعه من علاقات أفريقية سواء فيما بعد عبد الناصر ، أو ما بعد مرسي . خاصة في ظل وجود أياد دولية عابثة في الملف الأفريقي ، وعلي الأخص ملف المياه الذي يمثل قضية وجود بالنسبة لمصر . ولا يشغلني كثيرا ما يجري الإختلاف حوله بين الخبراء ، عن الحلول والحلول البديلة المطروحة أمام متخذ القرار ، وما يمكن تحقيقه ، وما لا يمكن تحقيقه من خلال الحل الأمثل / النموذج . ولكن ما شغلني حقاً هو تسليم الملف لمؤسسات الدولة للعمل عليه ، واقتراح الحلول وطرح البدائل ، واختيار الحل الأمثل في ظل المعطيات المحلية والدولية الفاعلة .
وهذا ما كنا نفتقده في مصر ، وهو الحضور الفعلي للعمل المؤسسي في اتخاذ القرارات السياسية في مصر ، حيث تعمل المؤسسات ويعتمد الرئيس . ثم جاء تحرك الرئيس علي الملف ، ليفصح عن ملامح استراتيجية مصر الجديدة تجاه عمقها الأفريقي . ولعل منهجية التعامل مع ملف المياه وسد النهضة تعكس بوضوح ملامح تلك الإستراتيجية . فالتوقيع علي إعلان المباديء كان تتويجاً لنشاط دبلوماسي مكثف ، اعتمد في الأساس علي الدبلوماسية الناعمة . وقد شمل الإعلان علي عشرة مباديء هي : 1 ـ مبدأ التعاون . 2 ـ التنمية والتكامل الاقتصادى . 3 ـ التعهد بعدم إحداث ضرر ذى شأن لأى دولة .4ـ الاستخدام المنصف والعادل للمياه . 5ـ التعاون فى عملية الملء الأول لخزان السد وتشغيله السنوى . 6ـ مبدأ بناء الثقة .7ـ ومبدأ تبادل المعلومات والبيانات . 8ـ ومبدأ أمان السد . 9ـ ومبدأ احترام السيادة ووحدة أراضى الدولة .10 ـ مبدأ الحل السلمى للنزاعات . وكلها مباديء تتفق وقواعد القانون الدولي الحاكمة للتعامل مع الأنهار الدولية ، وتحفظ في ذات الوقت الحقوق والمصالح المصرية ، فضلاً عن توفيرها آلية للتعامل بين الدول الأفريقية.
وتعد هذه الوثيقة وثيقة دولية يمكن استخدامها حال تعنت الجانب الإثيوبي . ولعل منهجية التعامل مع ملف المياه ، قد فتح الباب علي مصراعيه أمام القوي المصرية الناعمة للولوج إلي القارة الأفريقية ، وقطع الأيدي العابثة في الظهير الأفريقي لمصر ، باعتبار أن أفريقيا هي القاعدة الصلبة لمصر نحو الإنطلاق إلي الآفاق الأرحب ، بعد أن اهملناها ، وتعلقنا بأذيال الأمريكان والغرب لعقود طويلة ، فصرنا كمن رقص علي السلم . وهذا الإتفاق هو بمثابة تدشين لمرحلة جديدة من التعاون والتنسيق ، وخلق آلية لتسوية النزاعات . وما حدث ـ رغم أنك قد تجد بعض الإختلافات حوله ـ يمثل حالة إنعاش للذاكرة الأفريقية ، ومحاولة استعادة الرصيد التاريخي الذي استودعته مصر قلوب الأفارقة ، علي مدار عقود .
حسن زايد
كاتب مصري ومدير عام
المصدر: أوكرانيا بالعربية