أوكرانيا بالعربية | المشـــير وتـنـاقـضـات الــواقــع المصــري... بقلم حسن زايد
كييف/أوكرانيا بالعربية/دفعت الأقدار بالمشير السيسي إلي صدارة المشهد السياسي في أصعب الفترات التاريخية التي تمر بها مصر بعد الإستقلال . فقد مرت مصر بفترات عصيبة حين تعرضت لمؤامرة دولية تمثلت في العدوان الثلاثي عليها عام 1956 م ، ولم تكن الثورة قد خطت بعد خطوات مؤثرة علي نحو جذري في المجتمع المصري . ولم تمر قرابة العشر سنوات حتي تعرضت مصر لهزيمة قاسية سنة 1967 م ، حيث جري تدمير سلاح الطيران المصري علي الأرض ـ رغم البطولات الفردية الرائعة لبعض الطيارين ـ وجري ضرب الجيش بجنوده وعتاده علي أرض سيناء في ظل غياب الغطاء الجوي الذي يحمي القوات علي الأرض ، وانسحبت بقايا الجيش سيراً علي الأقدام في ظاهرة انسحاب عشوائي غير مسبوقة في تاريخ الجيش المصري ، ووصول القوات الإسرائيلية إلي الشط الشرقي لقناة السويس . ومع ذلك التحمت الجبهة الداخلية بالجيش في ملحمة صمود غير مسبوقة ، ونهضت مصر بذات الرجل المنهزم بعد أيام لتخوض معارك الإستنزاف الضارية بطول الجبهة وعرضها .
وتعرضت مصر لهزة عنيفة حين ضربها الإرهاب في رأس الدولة بقتل رئيسها الراحل أنور السادات بقصد هدم النظام السياسي القائم والحلول محله . ومع ذلك تماسكت مؤسسات الدولة بفضل البنية الإجتماعية المتماسكة الضاربة بجذورها في أطناب الأرض منذ آلاف السنين . ثم عرضت علي مصر موجة إرهابية ضارية استهدفت نظامها السياسي والإجتماعي والإقتصادي والثقافي علي مدار تسع سنوات من عام 1988 م حتي عام 1997 م . كل هذه الفترات تمثل فترات عصيبة في حياة الأمم والشعوب ، بسببها قد تتفتت شعوب ، وتندثر أمم ، وتزول حضارات من الوجود . إلا أن الشعب المصري من بين شعوب الأرض يمتلك جينات وراثية تحفظ عليه وجوده وقدرته علي المقاومة والتماسك والإحتواء والإنطلاق من جديد . ومن بين الفترات العصيبة التي يمر بها الشعب المصري تلك الفترة التي نحياها الآن . فمنذ ثورة 25 يناير 2011 م والشعب يعيش أسير دوامات عاتية ما بين مد وجذر ، وشد وجذب ، واستقطاب حاد يهدد سلامة المجتمع في بنيانه وأساساته التي يقوم عليها المجتمع المصري . حيث وجد الشعب المصري باختياره قاتليه بالأمس يتصدرون المشهد بعناصره وأبعاده وزواياه اليوم . وجد قادته باختياره من أصحاب الأمزجة الدموية والخيالات المريضة . وقد انخدع فيهم الشعب بإرادته رغبة في التجريب ، وإختبار المصداقية في تبنيهم للإسلام منهج حياة .
وقد كان لديه شوق وتوق لرؤية نجاحهم في جعل الإسلام يمشي علي الأرض ، وانعكاس ذلك في مسالكهم ومشاربهم وتوجهاتهم . إلا أن الشعب قد تفاجأ بأن من يحكمه عصابة لها مندوب في قصر الرئاسة ، جاءت بالديمقراطية ، وصعدت بسلمها إلي عرش مصر ، ثم ركلته بقدمها حتي لا يصعد غيرها كي يزاحمها ، تحقيقاً لحلمها في حكم مصر لمئات السنين ، وأطاحت هذه العصابة بالمجلس العسكري علي خلاف ما جري الإتفاق عليه ، وأصدروا إعلاناً دستورياً يكرس لفكرة الحكم بالحق الإلهي ، وإبان هذه الفترة بزغ نجم المشير السيسي الذي جري اختياره وزيراً للدفاع تصعيداً من إدارة المخابرات الحربية ، باعتباره عضواً في الجماعة أو علي الأقل متعاطف معها أو محباً لها ، خاصة بعد ما أشيع أن عمه هو القطب الإخواني عباس السيسي . وقد تواكب ذلك مع هبَّة الشعب من غفوته التي خدِّر فيها باسم الدين الذي يعيشه بفطرته دون غبش من هوي أو غرض . وبدأت حملة تمرد في جمع التوقيعات المطالبة بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة ، وانتشرت الفكرة بين أبناء الشعب التوّاق إلي نسائم الحرية والإنعتاق انتشار النار في الهشيم . وقد تجاوب الجيش مع الشعب ، وانحاز لإختياراته كعادته ، وإذا بالمشير السيسي يُوجّه تحذيرات الجيش للقوي السياسية بما فيها جماعة الإخوان الحاكمة . ويبدو أن الإخوان قد فهموا الرسالة خطأً . فقد فهموا أن الرسالة موجهة إلي قوي المعارضة دونهم . وقد تغافلوا عن انحياز الجيش إلي الشعب في مواجهة مبارك الذي يمثل بالنسبة لهم أحد رموز العسكرية المصرية في حرب أكتوبر 1973 م ، وأحد أبناء المؤسسة العسكرية ، والقائد الأعلي للقوات المسلحة لآخر لحظة في حكمه . ومن هنا أصبح المشير السيسي علي خط المواجهة . وفي لحظة تاريخية نادرة أصبح الرجل / الحلم المخلّص للشعب المصري ، ليس باعتباره القائد العسكري ، وإنما باعتباره رجل المرحلة الذي يطالبه الشعب بقيادة الدفة بمصر إلي بر الأمان . وتعالت الأصوات من كل حدب وصوب مطالبة السيسي بالترشح لرياسة الجمهورية . فإذا به يجد نفسه وجهاً لوجه في مواجهة تناقضات الواقع المصري . فالبعض طالبه بالبقاء وزيراً للدفاع لأن ذلك في صالح مصر ، والبعض الآخر طالبه بالترشح لرياسة الجمهورية لنفس السبب . والإخوان وبعض مجموعات ما يسمي بالقوي الثورية التي تعتبر نفسها صاحبة ثورة 25 ينايرـ متجاهلة دور الشعب المصري فيها بما في ذلك حزب الكنبة الذي لم يخرج في إتجاه مضاد أو مناويء أو مناهض لهذه الثورة ـ وضعت نفسها في الجانب الآخر العدائي من ثورة 30 يونيه التي فجرها الشعب في مواجهة حكم الإخوان ،ولا مانع لدي بعض عناصر هذا الجانب من طلب النصرة من قوي خارجية لها مصالح في التآمر علي مصر . أما الجانب الآخر الذي اعتبر نفسه صاحب ثورة 30 يونيه فقد اتخذت بعض عناصره موقفاً سلبياً من ثورة يناير باعتبارها تمثل مؤامرة لقوي خارجية نفذت بأيادي مصرية ، وأنها في أحسن صورها كالقمر المنير له جانب معتم ، فهي ثورة فيها جانب تآمري من بعض من شارك فيها . وقد اعتبر هذا الجانب ـ بما في ذلك بقايا الحزب الوطني المنحل ـ أنه صاحب الحق الحصري في الفريق السيسي .
فالجانب الأول اعتبره انقلابي ، والجانب الآخر اعتبره المخلص الذي سيعيد إلي مصر أيام الزمن الجميل في استقلال الإرادة الوطنية . وهناك جانب من المصريين قد علق عليه الأمال العريضة في الإنتصار للطبقات المهمشة والفقيرة وإعادة الإعتبار الإجتماعي والإقتصادي له . وفي مقابله تجد طبقة رجال الأعمال من بقايا النظام السابق وهم يتصورون أن ثورة يونيه ما قامت إلا لإعادة وضع الأمور في نصابها السابق باعتبارها ثورة علي الثورة . آمال وطموحات الطامحين معلقة في عنق المشير ، والإحباطات وخيبة الأمل من المحبطين معلقة أيضاً في عنقه . كيف يمكن للمشير ـ أو لأي رئيس قادم ـ أن يحفظ توازنه وسط تلك الغابة من المتناقضات التي يحياها الواقع المصري الراهن ؟ . خاصة أن ذلك التأييد الشعبي الجارف للمشير السيسي بقدر ما هو دافع قوي وحافز لا يقاوم إغراؤه بقدر ما هو عبء ثقيل في المرحلة التالية . فإذا أضيف إلي ذلك الضغوط الخارجية التي تستهدف خلق الدولة الفاشلة المنهارة ، وتخوفات هذه القوي من خلق ناصر جديد في المنطقة بعقلية القرن الحادي والعشرين ، لأدركنا مدي ما يتحمله المشير ـ أو أي رئيس آخر ـ من ضغوط وأعباء تنوء بها الجبال في المرحلة القادمة . وإن كان لنا من قول علي سبيل النصيحة فمؤداه : إياك وبطانة السوء . فقد قيل قديماً إذا أردت أن تعرف الرجل فأنظر فيمن حوله .
حسن زايد
كاتب عربي ومدير عام
المصدر: أوكرانيا بالعربية